يسيطر في أوساط الجيش الإسرائيلي، هذه الأيام، مصطلح «عالقون»، وهو معادل، وفقاً للمحلل السياسي لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، ناحوم برنياع، لـ«التباطؤ (في العمليات الحربية)» غير أنه «أقل تفاؤلاً بكثير». ويعود السبب في ذلك إلى عدم استعداد قادة الحرب، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، لصياغة تصوّر يضع الملامح الأوليّة لـ«اليوم التالي» للحرب. وبدأت تتجلى نتائج هذا الوضع في سياقات عديدة، منها الشواهد المُسجّلة في شمال قطاع غزة، بعدما تركه الجيش الإسرائيلي لـ«الفراغ». فمع تقليص الأخير قوّاته المنتشرة في المناطق الشماليّة، افُتتح، أخيراً، سوق في جباليا، الذي يديره، بحسب برنياع «ناشطون غير مسلحين في حركة حماس»، فيما «وحدات الجيش تقف جانباً؛ إذ إن الأوامر العسكرية تحظر إطلاق نار على أشخاص غير مسلحين إلا في حالة كان هؤلاء من المستوى القيادي (في المقاومة)»، علماً أن الجيش ذاته لم يكتفِ بإطلاق النار على فلسطينيين بينهم أطفال كانوا يرفعون رايات بيضاء فقط، وإنما فعل ذلك مع أسراه أيضاً في حوادث مماثلة، بينما يشن هذه الحرب بهدف «استعادة هؤلاء أحياء»، كما يقول.وبعدما أُريد، وفقاً للخطط الإسرائيلية - الأميركية، أن يكون شمال غزة بمثابة مختبر لـ«تجربة» الإدارة الذاتية من دون «حماس»، أحبط رفض نتنياهو وجناحه اليميني المتشدد، مناقشة «اليوم التالي»، هذه التجربة؛ «ففي الحياة ما من فراغ»، وفقاً لبرنياع، فضلاً عن أنه ثمة ما بين 100 و150 ألف فلسطيني لا يزالون يحيون هناك، على رغم تهجير إسرائيل للغالبية العظمى من سكان المناطق الشمالية. وبالعودة إلى سوق جباليا، رأى برنياع أن إدارة ناشطي «حماس» للسوق «تشكل مؤشراً إلى بدء استعادة الحركة للمناطق الشمالية»، لافتاً إلى أنه بينما تركز إسرائيل على استهداف الأنفاق، فإن «حماس» تعيد عملياً تأسيس حكمها من طريق الاهتمام بشؤون الناس واحتياجاتهم اليومية؛ إذ إنه «بداية تأتي السيطرة المدنية، ولاحقاً تأتي السيطرة العسكرية».
ما تقدم، يُضاف إلى شواهد أوردتها «إذاعة الجيش»، قبل أيام، تثبت، وفقاً لها، قدرة الحركة على إعادة تأهيل قدراتها السلطوية والعسكرية؛ إذ وفقاً لما نقلته عن مصادر في أجهزة الأمن الإسرائيلية، فإن الأخيرة ترصد اتجاهاً «مقلقاً» لمحاولة الحركة ترميم قدراتها في الشمال، من بين مظاهره إعادة تأهيل قوات الشرطة بغية بسط سيطرتها على هذه المناطق. وادعت الإذاعة أن جميع شاحنات المساعدات التي تصل إلى شمال القطاع وجدت طريقها إلى «أيدي حماس»، التي تعمل أيضاً على استعادة سيطرتها العسكرية، وهو ما يدلّ عليه «ضبط الجيش 60 صاروخاً معداً للإطلاق في بيت لاهيا، وعدد من عناصر حماس في مخيم الشاطئ، فضلاً عن إطلاق عشرة صواريخ (قبل أيام) من بيت حانون نحو سديروت». وعلى هذه الخلفية، تساءلت الإذاعة حول توقيت التحوّل إلى العمليات الجراحية المُركزّة، وما لو كان من الأفضل التروّي وإبقاء قوات كبيرة في المنطقة، وخصوصاً أن «اليوم التالي لم يُناقش، فيما بدأ هذا اليوم بالفعل في شمال القطاع».
ينسحب غياب الاستراتيجية على نقطة جوهرية أخرى، هي محور «فيلادلفيا»


ما يحدث حالياً في المناطق الشماليّة، كان حذّر منه، رئيس أركان الجيش، هرتسي هليفي، مطلع الأسبوع؛ إذ شدد، وفقاً لـ«القناة 13»، على أن غياب الاستراتيجية السياسية للحكومة قد يكون سبباً لـ«تآكل الإنجازات التي حققها الجيش»، محذراً من احتمالية أن «يضطر الجيش للعودة إلى المناطق التي أنهى فيها القتال».
وينسحب غياب الإستراتيجية على نقطة جوهرية أخرى، هي محور «فيلادلفيا» الذي يُعد «شريان الحياة بالنسبة إلى حماس. فطالما بإمكانها تهريب أسلحة ومال وأفراد من خلاله، يعني أنها باقية على قيد الحياة وتنبض، وتسيطر»، بحسب برنياع، الذي لفت إلى أنه لإغلاق المحور «إسرائيل بحاجة إلى مصر». وإذ يبدي رئيس الأخيرة، عبد الفتاح السيسي، «موافقة ليس فقط على استكمال عمليات إسرائيل في الجانب الغزي من الحدود، وإنما على إنشاء حزام أمني موازٍ في الجانب المصري». غير أنه «يضع شرطاً، بأن تتعهد إسرائيل بضلوع السلطة الفلسطينية في غزة في اليوم التالي للحرب، فيما يرفض نتنياهو منحه هذا التعهد. وحتى إنه يرفض مناقشة ذلك»، وفقاً للكاتب.
وأشار برنياع إلى أن الأوساط العسكرية أملت في أن يحل المستوى السياسي ثلاث مسائل شديدة الأهمية: محور «فيلادلفيا»؛ الجهة التي ستدير القطاع في اليوم التالي؛ وتطبيق القرار 1701 في جنوب لبنان. وطبقاً للكاتب، فإن الإدارة الأميركية تعمل على خطة «اليوم التالي»، والتي «تبدأ بغزة وتنتهي بتطبيع بين تل أبيب والرياض. وتشمل قوة متعددة الجنسيات أو مؤلفة من عدّة دول عربية مهمتها السيطرة مؤقتاً على غزة، على أن تستبدل في وقت لاحق بهيئة فلسطينية محلية في إطار سلطة فلسطينية متجددة». وإذ «يستوجب ذلك انسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع، فإن نتنياهو يرفضه من أصله»، علماً أنه من دونه «لن يكون للدول العربية مصلحة في إرسال جنود أو استثمار أموال في إعادة إعمار غزة. وبالتالي لا إعمار ولا تطبيع».
إضافة إلى ما سبق، إسرائيل «عالقة» في ما يخص موضوع أسراها أيضاً؛ إذ بحسب برنياع «لا أدلة على أن الضغط العسكري يليّن موقف السنوار. والخطأ الاستراتيجي (الذي ارتكبته إسرائيل) يتمثل في عدم إدراك قدرات السنوار وحركته. وهو الخطأ الذي قادنا إلى إخفاق 7 أكتوبر». وأضاف أنه «في جميع الأحوال، ندرك اليوم أن حماس لن تختفي، وليس في السنة القريبة بكل تأكيد، كما أن إطلاق القذائف الصاروخية سيستمر»، مستنتجاً أنه من الصحيح أن لكل قرار ثمناً، ولكن «عدم اتخاذ القرار، الذي هو استراتيجية نتنياهو، أمر أخطر».