لحظات بين الموت والحياة، هكذا يمكن أن نسرد القصص الشخصية للتغطية الإعلامية لجرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وقد امتلأت الذاكرة بتجارب العمل خلال الحروب الإسرائيلية على القطاع منذ عام 2008 وحتى اليوم. لكن، بالمقارنة مع التجارب السابقة، فإن هذه الحرب هي الأخطر والأصعب على جموع الصحافيين. فكانت الصحافة الفلسطينية في بؤرة الاستهداف المباشر والمتعمّد.أن تكون صحافياً تعمل في فلسطين، وفي غزة تحديداً، يعني أن تتحضّر للموت في كل لحظة، أن تُبلغ أفراد عائلتك أنهم معرّضون للموت والاستهداف من قبل إسرائيل. أو تبلّغ بأن منزلك الذي فيه أسرتك قد قُصف.
أن تكون صحافياً في فلسطين، يعني أن تستمر في العمل تحدياً وإصراراً، في وجه جيش فقد كل أصناف الإنسانية والأخلاق.
تجربتي الصحافية بدأت منذ سنوات، غطّيت كل الحروب التي شنّها الاحتلال على القطاع في الميدان، إلا هذه الحرب فأغطيها كمذيع في الاستديو من بيروت، بسبب إقامتي فيها لإنهاء دراساتي العليا في الإعلام.
شاهدت وسمعت في الحروب السابقة مئات القصص، لكنّ هناك آلافاً غيرها لم أتمكّن أنا أو غيري من الصحافيين من سردها وكشف فصولها الدامية. فالعمل وسط القصف والدمار والحرب المجنونة، يعني أن تكون صحافياً مقاتلاً، أن تكون البطل الذي لا يهاب، ولا يتوقف، ولا يهدأ، ولا ينام، كي يوصل رسالة شعبه المظلوم إلى العالم. فالعمل هنا صحافي، لكنه وطني ضمن القواعد المهنية والأخلاقية.
في هذه الحرب، عايشت أقسى تجربة يمكن لي أن أعيشها. فقد تلقّيت نبأ استشهاد والدتي وأنا أتجهّز للذهاب إلى الاستديو، لتغطية أحداث العدوان الإسرائيلي المستمر، كان هذا في الشهر الأول للعدوان. وقع الخبر عليّ كالصاعقة، فُجعت ولم أصدق. ودخلت في حزن شديد لفقدان أمي التي لم ألتقها منذ عامين، وكنت على موعد لرؤيتها في القريب، لكنّ الصواريخ الإسرائيلية الغادرة كانت أسرع.
نعيت والدتي على الهواء مباشرة، وانتشر فيديو النعي، فعجّت به مواقع التواصل الاجتماعي، وتناقله ناشطون ومؤثّرون، وصفحات فيها آلاف المتابعين. فتلقّيت الكثير من رسائل التعازي والمواساة المتضامنة والإنسانية. من شأن هذه الرسائل أن تساعدني وتقوّيني، لكنها فعلت العكس، فالفيديو الذي انتشر بكثافة، صار يظهر أمامي كثيراً، فأستعيد ألمي وحزني. فأنا لم أستوعب كيف تستشهد والدتي وأنا لست قربها. أذكر أن كلمات النعي التي خرجت مني لم أكن قد حضّرتها قبل الذهاب إلى الاستديو، فقد خرجت من قلبٍ مكلوم محزون على أمّه الفقيدة.
الوجع الذي عايشته أكثر من مرة، وعشته مكثّفاً هذه المرة، هو مواصلة العمل رغم حجم المصاب. واصلت التغطية، واستمر ظهوري الإعلامي عبر شاشة التلفزيون، ولا أخفي أنني مع كل مشهد أتذكّر والدتي، فأحاول أن أتماسك وأن أكون قوياً متحدّياً جبروت وإرهاب الاحتلال، الذي يحاول عبثاً كسر إرادتنا وعزيمتنا.
فأن تكون صحافياً فلسطينياً يعني أن تفقد عزيزاً أو ترحل شهيداً، وما أنا سوى واحد من عشرات القصص لزملاء قتل الاحتلال ذويهم، وهدم بيوتهم وشرّدهم.
بعد استشهاد والدتي، وبعد استهداف عائلات العديد من الصحافيين، زاد قلقي على حياة أهلي. فقد ودّعت عائلتي 15 شهيداً منذ بدء الإبادة الإسرائيلية في القطاع، واضطرّت أسرتي، كغيرها، للنزوح واللجوء القسري إلى الجنوب، بعد أن أصبحت منطقة بيتي في حي الشيخ رضوان معرّضة في كل لحظة للقصف كسائر المناطق. تفاقمت المعاناة، وتشرّدت الأسرة، وأصابت أفرادها الأمراض والأوجاع جراء فقدان مستلزمات الحياة الأساسية كما باقي أبناء شعبنا.
أتابع أحوال عائلتي لحظة بلحظة، رغم فقدان الاتصال بها لأسابيع. وأنا قلق دوماً وأتحسّب من وصول أخبار غير سارّة عنها. هي تسكن الخيام اليوم، وهي تفتقر لمعظم مقوّمات الحياة، ولا أملك سوى الدعاء أن يفرّج الله عنها.
لقد عايشت الحروب السابقة على غزة وعشرات الاعتداءات الإسرائيلية، وكنت مع زملائي نغطي الأحداث والجرائم، ونوثّق الدمار وننقل الحقيقة التي يحاول الاحتلال تغييبها. نجونا من استهدافات كثيرة أثناء التغطية. في عام 2008 قصف طيران الاحتلال مكاناً في مدينة غزة، لم أكد أبعد عنه سوى أمتار قليلة، فقمت بنقل الصورة والحدث على الهواء مباشرة من قلب الحدث، استشهد حينها عدد من المواطنين بينهم وزير الداخلية الفلسطيني سعيد صيام. في ذلك اليوم، لو كنت قريباً أكثر من المكان، لربما كنت في عداد الشهداء الذين ارتقوا حينها. فلا أمان في غزة، واليوم بات الاحتلال يستهدف كل شي مباشرة، بلا تفريق بين مدني، أو عسكري، أو صحافي، أو طبيب.
أخيراً، رغم كل ما كتبته، وكل ما يجول في خاطري، يسألني أحدهم: هل ستعود إلى غزة وقد حلّ فيها ما حلّ؟ إجابتي واضحة جلية، للمحتل أولاً، كيف لك أن تطردنا وتخرجنا من أرض دُفنت فيها أمي! أمّا غزة وفلسطين، فهما مَهْوى الفؤاد والروح وأجمل البلاد على الأرض، لا مكان لنا إلا فيهما.