أما الاتجاه الثاني، فيتمثّل في رأي الوزيرَين غادي آيزنكوت وبيني غانتس، وتوابعهما، مع قسم غير حاسم من حزب "الليكود" نفسه، يرى أن فشل الخيار العسكري يدفع مسألة الأسرى إلى الواجهة، ويفرض على إسرائيل أن تبحث جدّياً في "تحريرهم" عبر صفقة تبادل، حتى وإنْ اضطرّت لوقف دائم لإطلاق النار مع حركة "حماس". إلا أنه لا توجد لدى هؤلاء أوراق ضغط مؤثّرة إلى حدّ يدفع طاولة القرار إلى تبنّي موقفهم، علماً أن هذا الموقف لا يزال فضفاضاً ولم تتبلور تفاصيله بعد، لمعرفة أصحابه أنه سيتمّ رفضه في هذه المرحلة.
أما الجمهور الإسرائيلي، الذي وقف ابتداءً صلباً في طلب تحقيق أهداف الحرب، فقد بدأ "يصاب بكدمات" في الأسابيع الأخيرة، توازياً مع تغلغل اليأس في صفوفه. كما أن شركاء إسرائيل الإقليميين والدوليين، وفي مقدّمهم الراعي الأميركي، أصبحوا يدركون استحالة تحقيق تلك الأهداف، حتى بات البحث في مخرج يمثّل أولوية، بعدما وصلت إسرائيل إلى أقصى ما يمكن تحقيقه عبر الخيار العسكري. وبدلاً من البحث في مخارج وترتيبات سياسية وأمنية لغزة ما بعد القضاء على "حماس"، بات البحث قائماً حول اليوم الذي يلي في ظلّ وجود "حماس"، حتى لو تطلّب الأمر دفع اللعبة السياسية الداخلية في إسرائيل إلى أن تفعّل نفسها، وتتجه نحو بلورة تحالفات وانشقاقات حزبية بهدف إسقاط الحكومة ورئيسها واستبدالهما، على أن يكون مكوّن الحكومة المقبلة من اتّجاهات سياسية يكون عامل المصالح الشخصية أقل تأثيراً في قرارها ممّا هو عليه الآن.
أي اتفاق محتمل لا يزال في طور التبلور، وتحت وطأة شروط وسقوف عالية من الطرفَين
في المقابل، فإن خياراً كهذا لا يزال يحتاج إلى إنضاج، فضلاً عن أنه مشكوك في إمكانية نجاحه في هذه المرحلة، على رغم الدعم الأميركي له. وفي انتظار أن يَحسم رأس الهرم السياسي موقفه، لا يزال نتنياهو يعمل على تظهير تصلّبه، مرجئاً اتّخاذ قرار وقف الحرب عبر صفقة تبادل أسرى، مراهناً على عامل الوقت، علّه يأتيه بما يمكّنه من إنهاء القتال مع إنجازات. لكن في الموازاة، فإن الضغط بات كبيراً عليه ليبادر إلى "تحرير الأسرى"، وإنْ عبر تبادل، وهو ما يبدو أنه يتّجه إليه، لكن مع شروط، على رأسها الاستمرار في الحرب. كما يتسرّب عنه، في ما يبدو موجّهاً إلى آذان شركائه في الائتلاف من الفاشيين، أنه لا يوافق على إطلاق سراح مَن جرى اعتقالهم في مرحلة ما بعد الحرب، وأنه لا يوافق إلا على هدن مؤقتة يجري البحث فيها وفقاً لالتزامات الطرف الآخر.
في هذا الوقت، يواصل الجيش الإسرائيلي عملياته العسكرية في قطاع غزة، تمهيداً للانتقال إلى المرحلة المنخفضة الكثافة في الوسط، كما حصل في الشمال، على أمل أن تنتهي المرحلة الثانية في خانيونس، إلى إيجاد أسرى أحياء، وقتل أو أسر، كل أو أحد المسؤولين الثلاثة في "حماس": محمد الضيف، يحيى السنوار ومروان عيسى. كما يعمل الجيش على تهيئة الواقع الميداني لليوم الذي يلي العمليات الكبيرة، وسحب القوات إلى الحزام الأمني الذي بات جاهزاً في أكثر من نقطة على الحدود بين القطاع وأراضي عام 1948.
على أن أي اتفاق محتمل لا يزال في طور التبلور، وتحت وطأة شروط وسقوف عالية من الطرفَين، الأمر الذي يفسّر تكثيف العمليات القتالية في الميدان، لزوم التفاوض غير المباشر. ومع ذلك، فإن التفاوض نفسه، وبالأخصّ من ناحية إسرائيل، يؤكد نتائج الحرب: التباحث حول الأسرى ما كان ليكون لو لم تفشل الحرب في القضاء على حركة "حماس". كما أن كثرة العروض لدى الجهات الإقليمية والدولية، توازياً مع التخبّط والانقسام في إسرائيل نفسها، كلّ ذلك ما كان ليكون لو نجح الجيش الإسرائيلي في خياراته العسكرية.