غزة | سيكون عليك أن تتحلّى بكثير من الجرأة، كي تستطيع الدخول إلى قبو مستشفى «اليمني السعيد» في مخيم جباليا، شمالي قطاع غزة. في حقيقة الأمر، ليس لهذا المكان من المستشفى سوى اسمه، إذ أُنجز المبنى قبل نحو سبع سنوات من اليوم، فيما توقّفت عمليات تجهيره بعد اندلاع الحرب السعودية على اليمن، ليتحوّل، مع بداية «طوفان الأقصى»، إلى واحد من أكبر مراكز الإيواء وأكثرها ازدحاماً في شمال القطاع. في باحة المبنى الخارجية، ستلاحظ أن ثمّة منافسة بين خيام الأهالي والقبور التي تقضم يومياً مزيداً من مساحة الحديقة. من هناك، ستقودك قدماك حرفياً إلى عالمٍ موازٍ، حيث أكثر من 800 شخص يعيشون خارج نطاق الجغرافيا التي نعرفها، بعدما تقطعت بهم السبل، وقُصفت بيوتهم في محاور القتال الطرفية لأحياء بيت لاهيا وبيت حانون والقرية البدوية. وحينما وصلوا إلى «اليمني»، كانت طبقاته العلوية الخمس قد ازدحمت بعشرات الآلاف من المواطنين، فلم يجدوا مكاناً شاغراً سوى القبو.
في الطريق الذي يقود إلى القبو، تتجمّع أكوام كبرى من القمامة، ومسطّحات أكبر من مياه الصرف الصحي. هنا، ستنسى كل ما قرأته عن بؤس البشرية التي سجد بخشوع تحت أقدامها راسكولينكوف، بطل «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي. ستتذكّر كم كان ترفاً أن ترتجف وأنت تعايش التفاصيل الدقيقة لملحمة «البؤساء» لفيكتور هوغو، إذ لا بؤس أكبر من أن تفترش مئات الأسر، أرضاً تغرق بالوحل، وسط العتمة الحالكة، والرطوبة ورائحة العفن، والمرضى الذين تزدحم بهم الممرّات الضيقة. كلّ شيء هنا يخبرك، بأن كل أهوال الحرب، وحتى الموت بأشكاله كافة، كانت رحيمةً جداً.
لا شيء يصل إلى هذا المكان، لا كهرباء ولا مياه ولا قبس من ضوء الشمس


ستحتاج بعد أن تتوغّل عدّة أمتار بين خيام القبو المظلم، إلى أن تشغل ضوء هاتفك المحمول، كي لا تتعثّر أقدامك أو تدوس الأطفال النائمين، أو الميتين. أما بعض الأطفال المرضى، فليس أبلغ للدلالة على وضعهم من حديث النازحة الأربعينية أم أحمد، عن الديدان التي تخرج من أجساد الجثث المتحلّلة في الشوارع، والتي باتت هي نفسها تخرج من جرح ابنتها الصغرى، شذا.
لا شيء يصل إلى هذا المكان: لا كهرباء ولا مياه ولا قبس من ضوء الشمس. مع ذلك، فإنّ أكثرهم يفاجِئون مَن يسمعهم بحديث ملؤه التسليم والحمد. وللحقّ، فإن صاحب السطور بحاجة إلى كثير من الوقت، ليستفيق من صدمته جرّاء ما رأى. يُشعرك هؤلاء الذين قضوا في هذا المكان أكثر من مئة يوم، أنهم ولدوا هنا. لقد توحّدت ملامحهم مع العتمة والوحل، وأنستهم أيام القبو الطويلة.
حين هممتُ بالجلوس إلى جانبه، رفع أبو وفاء كلتا يديه، مشيراً إليّ بعدم الجلوس، إذ إن الفراش الذي يمدّد عليه جسده، متّسخ إلى الحدّ الذي: «ما بقبل يقعد عليه معي لا عدو ولا صديق». عاندتُ رغبته، وجلست إلى جانبه: «لَهْ يا عمّ، وين ما بتحطّ رجليك، بحطّ راسي». أبو وفاء، حاجٌ ستينيّ، فقد أربعة من أبنائه الذكور في قصف استهدف منزلهم في قرية أم النصر. ومنذ ذلك الحين، قرّر التحايل على ذكراهم، وعمّم على الجميع أن ينادوه باسم ابنته التي بقيت حيّة. قبل الحرب، كان يسكن بيتاً فسيحاً، في جوار حديقة مزروعة بالياسمين والحمضيات. يقول لـ«الأخبار»: «مَن يراني الآن، في هذه الحالة، يظنّ أنّني لم أرَ في حياتي يوماً جيداً. والله إحنا أكرم الناس، وأكثرهم نظافة وأناقة، لكنه جور الزمن، من شهر ما طلعت من هان، ما بدّي أطلع إلّا لمّا تتوقّف هالحرب، ما حابب أشوف أوضاع الناس ولا الناس تشوف وضعي».
انقضت ساعة قبل أن نهمّ بالخروج. لا يعير الناس الصحافيين كثيراً من الاهتمام. إنه المكان الوحيد الذي لم يسألنا فيه أحد عن آخر الأخبار السياسية. على باب القبو، حيث تصل أشعة الشمس، التقينا ميار، طفلة حباها الله بأجمل عيون في هذا العالم. أهدتنا ابتسامة ونحن نغرق في بحر من الكآبة، وقالت: «اضحك يا عمّو... القبو وكشرتك علينا».