قبل ساعات من الموعد الذي كان مقرّراً لإعلان "محكمة العدل الدولية" قرارها الأوّلي بخصوص دعوى جنوب إفريقيا ضدّ إسرائيل، بادر وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى إجراء محادثات هاتفية مع نظيرته الجنوب إفريقية، ناليدي باندور، مساء أول من أمس، تتعلّق بالحرب في غزة، في ما عُدَّ تجاوزاً لحالة الإنكار التي غلبت على موقف واشنطن من تحرّك بريتوريا في هذا الملفّ. لكن جولة بلينكن الإفريقية ظهّرت حقيقة أن الديبلوماسية الأميركية تجاه بلدان القارة، والتي تشهد تخلخلاً إضافياً في ظلّ الفشل العسكري والأمني الإسرائيلي في الحرب، لا تزال تدور في فلك الإملاءات وفرْض الاختيار بين بدائل. إذ طرح الضيف الأميركي أمام مسؤولي أربع دول، هي: كابو فيردي، نيجيريا، ساحل العاج وأنغولا (22-26 كانون الثاني)، الخيار الدفاعي - الأمني الأميركي، بديلاً من النفوذ الروسي والصيني المتنامي بالفعل في الدول التي شملتها الجولة.
واشنطن - بريتوريا: عودة الضغوط الأميركية؟
جاءت محادثات بلينكن وباندور، خلال وجود الأول في العاصمة الأنغولية، لواندا، آخر محطّات جولته الإفريقية، لتعبّر عن قلق واشنطن العميق إزاء خطوة بريتوريا، ومحاولتها استشراف مدى حرص الأخيرة على المضيّ قدماً في هذا المسار. وأكد بلينكن، خلال المحادثات، دعم بلاده "حقّ إسرائيل في ضمان عدم تكرار هجمات السابع من أكتوبر"، "وضمان (عملية) سلام إقليمي يقود إلى (إقامة) دولة فلسطينية مستقلّة"، فضلاً عن استدامة تقديم المساعدات الإنسانية للمدنيين الفلسطينيين.
وسبقت المحادثات مبادرة الوزير الأميركي إلى تقديم ترضية ديبلوماسية لجنوب إفريقيا، خلال وجوده في لواندا، حيث أكد أن "العلاقات مع بريتوريا لن تتأثّر بسبب قضية الإبادة التي رفعتها الأخيرة ضدّ إسرائيل"، فيما لفتت تقارير قضائية متنوعة في جنوب إفريقيا إلى احتمال أن تطاول دعوى الإبادة، الدول الداعمة لإسرائيل عسكريّاً في الحرب على غزة، وفي مقدّمها الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا. وسعى بلينكن، عمليّاً، إلى ربط المسألة برمّتها بمستقبل العلاقات الأميركية - الجنوب إفريقية، بتأكيده أهمية الشراكة والتعاون بين البلدين "حول الأولويات المشتركة، بما في ذلك الصحة والتجارة والطاقة" (ولا سيما أن جنوب إفريقيا تعاني من أزمة توزيع طاقة).
وسعى بلينكن، حتى قبل محادثاته مع باندور، إلى توظيف موقف بلاده من جهود جنوب إفريقيا لمحاصرة إسرائيل قضائيّاً، في سياق ما تردّده واشنطن من أنها لا تتّبع سياسات الضغط تجاه الأفارقة، ولا تدفعهم إلى تحديد اصطفافهم الدولي إمّا معها أو ضدّها. إذ عبّر عن تفهّم بلاده لتباين الرؤى مع الشركاء (الأفارقة)، قائلاً إنه عندما تختلف بلاده مع أحدهم "في شأن قضيّة محدّدة"، فإن هذا الاختلاف لا يبعدها عن العمل المهمّ "الذي نقوم به معاً". وهكذا، يبدو أن مناقشة "أزمة غزة" جاءت في سياق مساعي الولايات المتحدة الشاملة لاستعادة نفوذها التقليدي في جنوب إفريقيا - التي تتّخذ بدورها توجّهاً مستقلّاً أكثر قرباً من الصين وروسيا -، إمّا عبر الضغط بملفات من قَبيل دعم واشنطن لبريتوريا في إصلاح قطاع الطاقة من خلال تقديم حلول تقنية جذرية، أو تقديم خدمات دفاعية وأمنية لأنغولا وغيرها من الدول الإفريقية (ولا سيما في جنوب القارة)، ما سيمثّل ضغطاً على مقدّرات الصناعات العسكرية الجنوب إفريقية وسوقها التقليدية.
حكم "محكمة العدل الدولية" يمثّل نجاحاً منقطع النظير منذ عقود لديبلوماسية "الجنوب العالمي"


بلينكن و"عامل غزة": خسائر أميركية بالجملة
خسرت إسرائيل، وحليفتها أميركا، معركة "محكمة العدل الدولية"، بعد صدور حكم الأخيرة الذي أقرّ بفرض إسرائيل تهديداً بالإبادة في غزة. وستعمّق هذه الخسارة من فشل جهود بلينكن في جولته الإفريقية التي انتهت يوم أمس، في الترويج لبلاده كحليف "يعوَّل عليه" حتى وسط الدول الأربع التي شملتها الزيارة، ووصفتها وسائل الإعلام الأميركية بـ"الديموقراطيات الحليفة على الجانب الشرقي من الأطلسي". كذلك، مثّل الموقف الأميركي من الحرب في غزة، انتقاصاً من مصداقية واشنطن، وخصوصاً ما طرحه وزيرها خلال جولته الإفريقية من إعادة النظر في المقاربة الأميركية (والغربية) في إقليم الساحل، وضرورة تبنّي مقاربة أكثر شمولاً تُعنى أساساً بالتنمية في هذا الإقليم الذي لم تفلح المساعدات الفرنسية والغربية في تحسين أحواله الأمنية، على رغم الصلاحيات "المطلقة" التي تمتّعت بها في معالجة الملفّ على مدى أكثر من عقد.
وفي ما يخصّ ملفّ مساعي واشنطن "لملاحقة" بكين في إفريقيا، ومنع موسكو من "التوغّل" أكثر في القارة، فإن حُكم "العدل الدولية" ضدّ إسرائيل، وعجز الولايات المتحدة عن تقديم نموذج أخلاقي حقيقي للدول الإفريقية التي انحازت شعبيّاً ورسميّاً في الغالب لمصلحة القضية الفلسطينية، سيضاعف خسائرها في القارة (وعلى المستوى الدولي) كقوّة دولية قادرة على فرض السلام في مناطق النزاعات.
وفي الجهة المقابلة، فإنّ حكم المحكمة الأخير يمثّل نجاحاً منقطع النظير منذ عقود لديبلوماسية "الجنوب العالمي" التي برزت فيها جنوب إفريقيا بالتنسيق مع الصين تحديداً، وروسيا بشكل أقلّ بروزاً، وتمكّنت فيها بريتوريا من تأمين تأييد إفريقي غير قابل للشكّ، وفرض حقائق جديدة تخصّ سردية الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني في إفريقيا. كما تجسّد هذا النجاح في عجز الولايات المتحدة عن تبرير سياساتها أو فرض تصوّراتها كما كانت عليه الحال في السنوات الأخيرة، وهو ما يفاقم من مأزقها في إفريقيا، ولا سيما إذا نجحت جهود ضمّها إلى قائمة الدول المتّهمة بدعم الكيان الصهيوني في إبادته للشعب الفلسطيني.

خلاصة
جاء حُكم "محكمة العدل الدولية" بإدانة إسرائيل، ليزيد من تعقيد الموقف الأميركي في إفريقيا، ويحبط مساعي واشنطن في الساعات الأخيرة للتوصّل إلى "تسوية" مع بريتوريا، كما اتّضح من محادثات بلينكن مع نظيرته الجنوب إفريقية، قبيل ساعات من إعلان القرار. كما يمكن القطع بأن هذا الحُكم سيعمّق بالفعل من خسائر السياسات الأميركية في إفريقيا، فضلاً عن أنه سيلقي ظلالاً أكثر قتامة حول أهلية الولايات المتحدة للقيام بدور "القوة الكبرى" في القارة، فيما تفتقر إلى الحدود الدنيا من الأسس الأخلاقية والديموقراطية، بحسب ما اتّضح في دعمها للعدوان على غزة.