بعد أيام قليلة على عملية «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، انهارت سردية كيان الاحتلال حول طبيعة الأحداث وسقطت كل الفبركات التي حاول عبرها استعطاف العالم الغربي. تحولت منصات التواصل إلى ساحة رقمية كبرى يصرخ فيها مناصرو فلسطين حباً ومؤازرة للشعب الذي نُكّل به طوال أكثر من 70 عاماً. على المقلب الآخر، انهارت الـ «حاسبارا» الإسرائيلية، رغم تدخل وزارة خارجية الاحتلال وتفعيل محركات القسم التقني بداخلها تحت إشراف دايفيد سارانغا. لم يهدأ مناصرو فلسطين على منصات التواصل بفعل ما يرونه من مجازر، إذ تحول العالم الرقمي إلى جبهة جديدة من الحرب بشهادة الصحف الغربية والعالمية. أمام هذه الخسارة الإستراتيجية للاحتلال، يُضاف إليها ضبابية المشهد السياسي داخل الكيان، وعدم تحقيق أي هدف من أهداف حربه على غزة، يحاول اليوم تحصيل انتصار ولو عبر جمع «اللايكات» عبر شرائه نظاماً تكنولوجياً متطوراً قادراً على إجراء عمليات واسعة النطاق لمواجهة المقاومة على الإنترنت. إذ كشفت صحيفة «هآرتس» العبرية في 16 من الشهر الحالي، شراء «إسرائيل» منظومة تكنولوجية متطورة صمّمت في البداية لأغراض الاستخبارات العسكرية والحرب النفسية. وستستخدم لمعالجة فشل «حاسبارا» العدو أمام المقاومة، ومواجهة ما وصفوه هم والباحثون لديهم بـ «آلة الكراهية» المجهزة جيداً عبر الإنترنت التي تنشر بشكل منهجي «المعلومات المضللة المناهضة لإسرائيل والمؤيدة لحماس، والتي تنكر 7 أكتوبر»، إضافة إلى المحتوى «المعادي للسامية». طبعاً، لم يكشف الإعلام العبري القصة من منطلق حرصه على العدالة، بل لأمور داخلية من بينها القلق من استخدام هذه التكنولوجيا من أحزاب سياسية ضد أخرى، لما لها من تأثير في منصات التواصل.وفقاً لمعلومات «هآرتس»، أنشأ الكيان ــ بعد أسابيع قليلة من الحرب ـــ «منتدى حاسبارا» الذي يجتمع أسبوعياً، ويضم الوكالات الحكومية والمكاتب والوزارات، فضلاً عن الهيئات العسكرية والدفاعية والاستخباراتية، بما في ذلك قوات الاحتلال، وجهاز الأمن «الشين بيت» وجهاز الأمن العام «الشاباك»، إضافة إلى «مجلس الأمن القومي»، وشركات التكنولوجيا والمبادرات التطوعية المدنية وحتى المنظمات اليهودية. وأجرى مسؤولون من هيئات مختلفة، بما في ذلك «مديرية الديبلوماسية العامة» و«وزارة شؤون الشتات»، والمكلفون بمكافحة «معاداة السامية» ضد يهود العالم، محادثات مع شركات مختلفة ومقدمي خدمات التكنولوجيا الناشطين في حملات جماعية مختلفة عبر الإنترنت. ونتيجة لذلك، قررت «إسرائيل» شراء منظومة متكاملة لمواجهة «حماس» على الإنترنت. إذ اشترت عدداً من الأدوات والبرامج التي طُوِّرت للحملات التجارية والسياسية، بما في ذلك نظام يرسم تواجد المستخدمين عبر الإنترنت بشكل خرائط ونظام قادر على إنشاء مواقع الويب تلقائياً، إضافة إلى نظام ينشئ محتوى مخصّصاً لجماهير محددة؛ ونظام لمراقبة وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات المراسلة وغيرها. أمر يوفر منظومةً مهمةً في المعركة ضد الدعاية عبر الإنترنت، وتعزيز سردية «إسرائيل» وتحسين صورتها في العالم. كما تهدف التكنولوجيا إلى مواجهة تأثير القوى الخارجية الداعمة لمثل هذه الحملات، بما في ذلك إيران وروسيا، إذ يزعم الاحتلال أنّ هذه القوى فاقمت التحديات التي تواجهها «إسرائيل» على الجبهة الرقمية. الحملة الأولى التي بدأها النظام، تعمل بالفعل عبر الإنترنت، ليس باللغة العبرية ولا يركز على الحرب على الإطلاق، بل على «معاداة السامية» ومواجهة الروايات «المعادية للصهيونية».
وبينما لا يتوقع المسؤولون الإسرائيليون أن يحصلوا على دعم كبير على الإنترنت، إلا أنهم يقولون إن الدعم الشعبي الأوسع للقضية الفلسطينية قد «اختُطف بنجاح من حماس» لتقويض مكانة «إسرائيل» بطريقة غير مسبوقة. ويقول المسؤولون الإسرائيليون إن الحجم الهائل للمحتوى الذي تنتجه «حماس» والجماعات التابعة لها، فضلاً عن انتشارها العضوي (من دون تسويق وإعلانات) وخصوصاً بين الشباب الغربي، أمر فاجأ «إسرائيل». لكن ما لا يفهمه العدو هنا، أو يحاول إخفاءه، أن حجم المحتوى الذي تنتجه «حماس» أو مناصرو الشعب الفلسطيني حول العالم، هو انعكاس لحجم القتل والمجازر التي ترتكبها «إسرائيل». بكلمات أخرى، يشاهد الناس حول العالم الفظائع المروعة لوحشية آلة القتل الإسرائيلية، فيتفاعلون مع ذلك كله لينتشر المحتوى على منصات التواصل. والأخيرة تساعد الناس على رؤية ما يحدث في غزة والضفة الغربية بشكل مباشر، لكن من يقوم بصنع المادة أو المحتوى، هو قوات الاحتلال عبر جرائم الإبادة التي ترتكبها. أما تفاعل الجماهير مع الجرائم، فهو أمر لن يستطيع العدو إيقافه أبداً. بالتالي، السردية التي تحاول «إسرائيل» فرضها (تفوّق «حماس» على الإنترنت ضد إسرائيل) هي سردية مشبوهة ومضلّلة، تريد طمس حقيقة أن الناس يتفاعلون مع الشعب الفلسطيني والمقاومة نتيجة الوحشية الإسرائيلية. بدلاً من ذلك، تحاول «إسرائيل» تصوير أن «حماس» الممنوعة من التواجد على منصات التواصل، استطاعت سرقة وعي الشباب الغربي وتحويله ضد «إسرائيل». صحيح أن المقاومة قدمت فيديوات مصورة بشكل لافت للشباب من ناحية زاوية التصوير الأشبه بألعاب الفيديو، كأن المقاومة تقول للشباب «نحن مثلكم، نتحدث لغتكم»، لكن هذا لم يكن سبب تعاطف الغرب مع الشعب الفلسطيني بدايةً، بل دماء الشهداء من أطفال ونساء، والتقارير عن اضطرار إجراء عمليات بتر لبعضهم من دون تخدير بسبب الحصار... هذه أمور لا يمكن أن يتقبلها أي شخص سويّ في هذا العالم.
تجمع أدوات المنظومة الحسابات المناصرة لفلسطين على شكل خرائط ومواقع جغرافية


بالعودة إلى المنظومة الجديدة، يبشر نشر النظام بعصر جديد في استراتيجية الحرب الرقمية الإسرائيلية، ويشير إلى نهج استباقي لمكافحة ما يضر بصورة «إسرائيل» على الإنترنت. ولتوضيح المشهد، يمكن لنا أن نتخيل هذه المنظومة تعمل بالشكل التالي: ستقترف آلة القتل الإسرائيلية مجزرة جديدة بحق مواطنين فلسطينيين. وقبل أن يبدأ الأفراد بنشر ما حصل على منصات التواصل، تباشر المنظومة الجديدة تضخيم سردية «إسرائيل» حول ما حصل بشكل كبير يلفّ منصات التواصل، مع إنشاء مواقع إلكترونيّة واستهداف المنشورات الفلسطينية بحجة «معاداة السامية». وبالتوازي، ستجمع أدوات المنظومة الحسابات المناصرة لفلسطين على شكل خرائط ومواقع جغرافية، وستحاول الحد من انتشار المحتوى التي تنشره في كل منطقة جغرافية. لكن بمعزل عن كل التكنولوجيا، لن يستطيع أي شيء إعادة ترميم صورة «إسرائيل» لدى الشباب الغربي. هذا أمرٌ انقضى، محرقة الشعب الفلسطيني حُفرت في عقولهم إلى الأبد. ولن ينفع الصهاينة أي منظومة تكنولوجية، وهم الذين يملكون في جعبتهم مؤسسي منصات التواصل ومالكيها. فهل أوقف هذا المناصرين عن التفاعل؟