لم يمثّل ادّعاء دولة جنوب أفريقيا على الكيان الصهيوني أمام «محكمة العدل الدولية»، ضربةً للكيان على المستوى الميداني فقط، بل إنّ الانتصار الأهمّ كان على صعيد فضح صورة الكيان الحقيقية إعلاميّاً وأمام العالم. هذا ما دفع الإعلام الغربي بغالبيته إلى الاتفاق على عدم نقل مجريات المحاكمة عندما تكلّم محامو جنوب أفريقيا، في مقابل نقل بعضه لها لدى كلام محاميي الكيان. بعد صدور قرار المحكمة النهائي، انشطر الإعلام عالمياً بين قسم رآه انتصاراً للفلسطينيّين وقضيّتهم الإنسانية، وآخر رأى أنّه «أنصف» الكيان في ما يخصّ تهمة الإبادة الجماعية، رغم الرأي السائد داخل الكيان وعلى ألسنة قادته وإعلامه بأنّ المحكمة ظلمته، حتى ذهب بعضهم إلى اتّهامها بـ «معادية للسامية»!
(باتريك شابات ـ سويسرا/لبنان)

هكذا، هرعت وسائل إعلام غربية إلى تفسير كيف أنّ قرار المحكمة «لم يدعُ إلى إيقاف الحرب» بل إلى «اتّخاذ السبل الوقائية لحماية المدنيّين فقط»، في وقت رأت فيه أخرى معارِضة لما يتعرّض له الفلسطينيّون، بأنّ القرار جاء ناقصاً، بما أنّه لم يدعُ إلى إيقاف الحرب. وللمفارقة، فإنّ الإعلام الغربي موضع النقاش كان الفرنسي والألماني بشكل خاصّ، فيما كان الإعلام الأميركي أكثر واقعية (لا يعني ذلك عدم الانحياز)، ولم يذهب الإعلام الإسرائيلي إلى إعلان الانتصارات الوهمية كما درجت العادة في كيان يخضع إعلامه للرقابة العسكرية، بل لعب دور الضحية، وهو أمر ليس غريباً عن أدبيّات العدوّ كذلك. فقد أعلنت قناة i24 التابعة للحكومة الصهيونية أنّ «إسرائيل خسرت»، فيما برز على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع نشرته CNN على صفحاتها الافتراضية يظهر فيه مراسلها نك روبرتسون من معبر كرم أبو سالم أثناء التظاهرة التي قام بها مستوطنون هناك لمنع إدخال المساعدة الإنسانية إلى غزّة. ورأى روبرتسون أنّ «إسرائيل» بذلك تخالف التوصية الأولى في قرار «محكمة العدل الدولية» باستمرار المساعدات الإنسانية إلى داخل القطاع المحاصر.
ترويج لسرديّة إسرائيل في ما يتعلّق بوقف التمويل عن الأونروا


ويُعتبر تعاطي الإعلام الغربي بهذه الطريقة مع القرار الصادر عن منظّمة أممية لطالما تشدّق بها وبمثيلاتها، فصلاً جديداً من الانحياز العنصري لمصلحة كيان يرتكب جرائم ضدّ الإنسانية. وجه كشف عنه هذا الإعلام بحقارة (أمام جمهوره) بعد السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، بعدما كان يدّعي الموضوعية ويبشّر حول العالم بأساليبه المفترضة في نقل وجهتَي النظر. وتبدّى أكثر هذا الانحياز ضدّ «الأمم المتّحدة» عندما يمسّ الأمر مصالح العدوّ، في طريقة تعاطي الإعلام نفسه مع قرار بعض الدول وقف تمويل وكالة الـ«أونروا»، إذ إنّه روّج لسردية هذه الدول كما سردية الاحتلال حول وجود مقاومين في «حماس» بين موظّفي الوكالة، لصبغ الفلسطينيّين بثوب «حماس» نزعاً للإنسانية عنهم وتبريراً لمخالفة قرارات لا تتماشى مع مصالح الاحتلال، ولو كانت أممية.