غزة | منذ دخول المنخفض الجوي الشديد البرودة، بدأت تتتابع تأثيراته على النازحين من محافظات غزة، إلى مدينة رفح جنوبي القطاع، والذين ينشغل معظمهم بتأمين الاحتياجات الأساسية من أغطية وشوادر ونايلون، علّها تقيهم وخيامهم خطر العواصف التي كانت أسرع إليهم من خطاهم نحو توفير ما يَلزم. هكذا، بدت محاولاتهم الاحتماء عبثيّة، بعدما خارت قواهم تحت قوّة تساقط الأمطار وعصف الرياح. تقول السيدة الستينية، سعاد ارحيم، وهي حكيمة متقاعدة نزحت وأفراد عائلتها من منطقة الزوايدة وسط القطاع بعد إبلاغهم بالإخلاء، إنّ «الخيمة التي تؤويهم، منذ أسبوعين، كادت تودي بحياة زوجها المُصاب بأمراض القلب، بعدما اشتدّت الرياح وتسرّبت مياه الأمطار إلى داخلها». وتتابع سعاد التي لجأت إلى محيط «جامعة القدس المفتوحة» شمالي رفح، حيث صنع أبناؤها خيمة من النايلون وبعض الأقمشة، وثبّتوها بالأخشاب، في حديثها إلى «الأخبار»: «في حدود الساعة الواحدة ليلاً، كانت حركة النايلون شديدة الاضطراب، وشعرتُ أنّ الخيمة ستُقتلَع من شدّة العواصف، ونتيجة تضارب الأصوات ما بين الهواء والنايلون، بالكاد سمعت صوت شهيق زوجي وهو يتعرّض لأزمة قلبية مفاجئة» نتيجة البرد الشديد، والذي لا تمتلك الأسرة في مواجهته أغطية شتوية كافية، فيما يضطرّ أفرادها الثمانية لأن يتشارك كل اثنان منهما غطاء واحداً، فيقضون الليل وهم يُكابدون الصقيع وقلّة النوم. تعلّق الابنة مريم، قائلةً: «صمدنا أكثر من 115 يوماً في العدوان ولم يقتلنا القصف؛ لكن هل يَقبل العالم أن نموت من البرد؟ كان أبي سيخسر حياته، رأيته يشهق وينازع، روحه وجسده كالجليد من شدّة البرودة».
تعايش هذه العائلة، وغيرها من النازحين الذين تجاوزت أعدادهم المليون ومئتي ألف، ظروفاً استثنائية غاية في الخطورة على حياتهم وحياة أطفالهم، في ظلّ الاكتظاظ السكاني الهائل في رفح، وعدم توفّر أماكن مناسبة لإيوائهم. في مكان قريب من خيمة سعاد، وتحديداً في الحيّ السعودي، يقف الأربعيني أحمد فؤاد وهو يُثبّت نايلوناً أخضر اللون ابتاعه قبل ساعات، فوق سقف خيمته. يقول إنهم «غرقوا في الوحل والمطر»، بعدما نصب خيمةً تؤويه وعائلته النازحة من حي الزيتون شرقي مدينة غزة، «هنا على الرمل»، كونه لم يجد حيّزاً على الرصيف كأولئك الذين سبقوه، فـ«كانوا أكثر حظاً» منه، كما يضيف. انتظر فؤاد بزوغ الفجر ببالغ الصبر بعد ليلة وصفها بـ«المروّعة» لأبنائه الخمسة ووالدته المسنّة، ليشتري نايلوناً إضافياً يُحاول أن يُرقّع به خيمته التي تتساقط منها مياه الأمطار عليهم، فيضطرون لتجميعها في «جردلين» يتوسّطان الخيمة من الداخل. ومع ذلك، فإنّ المياه دائماً ما تجد طريقاً إليهم من الزوايا.
تسبّب المنخفض الجوّي الحالي بتعرُّض أعداد كبيرة من النازحين في الخيام لوعكات صحية


وتسبّب المنخفض الجوّي الحالي بتعرُّض أعداد كبيرة من النازحين في الخيام لوعكات صحية، نظراً إلى عدم توفّر الإمكانات الخاصّة لمواجهة موجات الصقيع المتتالية في هذا الشتاء الأقسى عليهم، بعدما خرجوا من بيوتهم آمنين، فأصبحوا في طرفة عينٍ بلا مأوى. من بين هؤلاء، الرضيعة بانا، ذات الأشهر التسعة؛ إذ تقول والدتها، ردينة جهاد، التي قضت ليلتها الثانية من المنخفض الجوي في أرجاء المستشفى، بعدما ارتفعت حرارة صغيرتها بشكلٍ كبير، وبدأت تتصلّب أوتار أطرافها: «تشنّجت ابنتي بين يديّ، ولم أَعرف ماذا أفعل. خرجت في الواحدة والنصف ليلاً تحت المطر، أنا وجدّها، وتوجّهنا إلى المستشفى... كنت أصرخ في وجه الأطباء ليساعدوني في إنقاذها، وانتابني شعور بالعجز والذلّ والقهر في آنٍ واحد، وخشيت جداً أن أفقد طفلتي في تلك الليلة، لكن بعد مرور نحو ثلاث ساعات، أخبرني الطبيب أنّ حرارتها أصبحت طبيعية وأنها تتماثل للشفاء».
من جهته، يقول صالح بركة: «أصبح تغيُّر الطقس إلى الغائم وسقوط حبات المطر أكثر ما يزعجني ويرهبني». ويضيف: «أطول الليالي هي تلك الماطرة، التي تبدأ مع الغروب وتمتدّ حتى الشروق». لكن في الخيمة «تساوت قسوة الليل مع النهار في ظلّ العواصف الضارية وحالة الطقس المضطربة، فلا هدوء ولا استقرار إلّا بهدوء العاصفة».