غزة | تركت الدبابات الإسرائيلية «مجمع الشفاء الطبي» غربي مدينة غزة، والذي كانت قد اقتحمته في منتصف تشرين الثاني الماضي، بعد أن عاثت فيه خراباً، أخرج أكثر مبانيه التخصّصية عن الخدمة، وحوّله في الوقت الحالي إلى أكبر مركز إيواء في المدينة. المجمع، الذي يعد أكبر المؤسسات الصحية الحكومية في القطاع، يحوي أربعة مبانٍ رئيسة: الأساسي مخصص للاستقبال والطوارئ والمبيت، والثاني مخصص لأمراض الباطنة، والثالث للنساء والتوليد، والرابع الذي شُيد قبل زهاء 10 سنوات، مخصص لجراحة العمليات الكبرى. إضافة إلى ذلك، تتوزع في مساحة المجمع عدة مبانٍ فرعية، مثل الأشعة والمختبرات وبنك الدم وغسيل الكلى وثلاجات الموتى، ومبنى آخر للإدارات الطبية.تعاقبت على إدارة «الشفاء»، منذ أسّسه الانتداب البريطاني في عام 1946، عدة إدارات حكومية. إذ تولت السلطات المصرية إدارته لعقدين من الزمان، قبل أن يقع تحت السيطرة الإسرائيلية إبان احتلال القطاع في عام 1967. وفي عام 1980، أجرت سلطات الاحتلال، عبر شركة إسرائيلية متخصّصة، إصلاحات جذرية عبر عملية ترميمه، على شكلٍ مماثل لما هو قائم في مستشفى إسرائيلي مشابه أنشأته الشركة ذاتها في مدينة الخضيرة المحتلة. أثناء حروب غزة الأربع، التي اندلعت أولاها بين عامَي 2008 و2009، خرج «الشفاء» من كونه مؤسسة صحية، ليصبح النقطة الأكثر تأثيراً في مجريات الأحداث، ولا سيما أن باحاته الخلفية والأمامية كانت تعج دائماً بالمئات من الصحافيين، الذي يستندون في رسائلهم إلى المعلومات التي تقدمها وزارة الصحة من داخله. وأكثر من ذلك، شكّل «الشفاء» الملجأ الأول الذي يقصده المهجّرون من الأحياء الطرفية لمدينة غزة، من مثل الشجاعية والتفاح. وهكذا، ظلّ الصحافيون والمواطنون وحتى الناطقون الإعلاميّون باسم الفصائل والمؤسسات الأهلية والدولية، يعتقدون بأن «الشفاء» هو المكان الأكثر أماناً وتأثيراً. أما جيش الاحتلال، فقد روّج، أثناء أربع حروب ماضية وأكثر من 25 جولة قتال بين الحروب، لكون القيادة السياسية والعسكرية لحركتَي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» تتحصّن في شبكة أنفاق معقدة أسفل المستشفى، ومنها تدير نشاطها العسكري والإعلامي والسياسي.
في «طوفان الأقصى»، وضع جيش الاحتلال «مجمع الشفاء» في باكورة الأهداف التي لا بدّ من الوصول إليها، للإطاحة بما سمّاه منظومة القيادة والسيطرة التابعة لـ«حماس». وقد قام، في سبيل تحقيق هذا الهدف، بمناورة برية كبرى، نفذ أثناءها أحزمة نارية استخدم خلالها أكثر من 120 طائرة، قصفت القطاع الغربي للمدينة بمئات الغارات طوال أكثر من 80 دقيقة. وفي العاشر من تشرين الثاني الماضي، تمكّنت مئات الدبابات من التوغل إلى محيط «مستشفى عبد العزيز الرنتيسي» في حيّ النصر، وتمركزت على بعد لا يتجاوز الـ1500 متر شمالاً من «الشفاء». ومن الجهة الغربية الجنوبية، أحاطت الدبابات بالمستشفى في مناطق دوار حيدر والعباس و«مركز رشاد الشوا الثقافي». ولم تمضِ عدّة أيام، حتى تمكنت الدبابات الإسرائيلية، التي دُعمت بالعشرات من جرافات الـ«d9»، من اقتحام المستشفى، الذي استطاعت إدارته إخلاء أكثر من 40 ألف نازح ومئات الصحافيين والمئات من الجرحى والكوادر الطبية من منفذ شرقي، لم تكن آليات الاحتلال قد أتمّت إطباق الحصار عليه.
المجمع تحوّل إلى أكبر مركز إيواء في شمال وادي غزة


مضت أكثر من 10 أيام على اقتحام «الشفاء»، غربل جنود الاحتلال أثناءها 42 ألف متر مربع، هي مساحة المستشفى الإجمالية، بحثاً عن نفقٍ واحد. كما بحث أسفل طبقات مسطحات مبانيه الإسمنتية التي تتجاوز مساحتها الـ15 ألف متر، عن قيادات فصائل المقاومة، أو غرف عملياتها، أو الجنود الأسرى لديها، أحياءً أو أموات. كذلك، نبش، طوال أيام، المقابر الجماعية التي دُفن فيها الشهداء في باحة «الشفاء»، ثم أعلن، في الـ16 من تشرين الثاني، أنه استطاع العثور على جثمان الأسيرة الإسرائيلية، يهوديت فايس، في واحد من المباني القريبة من المجمع الطبي، بعدما كان قد أعلن، أثناء العمليات، أنه تمكن من مداهمة أنفاق أسفل المستشفى، وعثر في بعضها على دراجة نارية وعدد من أسلحة الكلاشنكوف الفردية.
هكذا، انتهت فقاعة «الشفاء»، ثمّ ازداد حرج جيش العدو بإعلان خبير أمني إسرائيلي أن الأنفاق التي توجد أسفل المستشفى، كانت قد بنتها سلطات الاحتلال بيدها في عام 1983، واستخدمتها كمقر قيادة عسكرية. وفي محصلة الأمر، لم تجد سلطات الاحتلال ما تبحث عنه؛ إذ لا أنفاق طويلة تربط «الشفاء» بغرف القيادة والسيطرة التابعة للمقاومة، ولا قيادات كبيرة أسفل المستشفى، ولا جنود إسرائيليين معتقلين في أقسام الولادة وغسيل الكلى. وفي الرابع والعشرين من تشرين الثاني، انسحبت الدبابات الإسرائيلية من «الشفاء»، بعدما هدمت وجرفت سور المستشفى الخارجي، والحدائق الخلفية التي تحوّلت إلى مقبرة شهداء كبرى. كما أقدم جيش العدو، قبل انسحابه، على تدمير كل مولدات كهرباء المستشفى، فضلاً عن تخريب المئات من الأجهزة الطبية وأقسام المبيت، وإفساد كلي لمخازن الأدوية وبنك الدم.

ما بعد الحصار
في ما رصدته «الأخبار» التي زارت المستشفى أثناء إعداد هذا التحقيق، بدا واضحاً أن المجمع تحوّل إلى أكبر مركز إيواء في شمال وادي غزة، حيث تعج أقسام المبيت فيه بأكثر من 15 ألف نازح، ما بين جرحى وعائلات كاملة تفترش كلّ الأقسام والممرات، وحتى الباحات الخارجية المحيطة به. أما الشوارع الثلاثة التي تحيط بمبانيه، فقد استحالت، هي الأخرى، أسواقاً تعجّ بعشرات الباعة المتجولين الذي يعرضون كميات قليلة جداً من المواد التموينية، وأدوات منزلية ومواد تنظيف، وآلاف المتسوقين الذين يقصدون تلك المنطقة من مناطق شمال وادي غزة كافة، بوصفها المكان الذي يمكن أن تعرض فيه المساعدات، التي يستحوذ عليها المواطنون، للبيع.
أما عن الخدمات الطبية التي يقدمها المبنى، فيوضح مصدر طبي، في حديثه إلى «الأخبار»، أن «الشفاء يعمل بأدنى مستويات طاقته، وذلك قياساً على ما كان عليه الحال قبل الاقتحام الإسرائيلي للمجمع، الذي كانت قدرته الاستيعابية تتجاوز الـ600 سرير، ويخدم ما تعداده 534558 ألف نسمة، بطاقم طبي يتجاوز الـ2000 موظف ما بين أطباء وممرضين وفنيي أشعة ومختبرات وعمال صيانة ونظافة (1440 موظفاً كانوا يعملون في الشفاء في عام 2010)». ووفقاً للمصدر ذاته، فإن «الأيام الأولى التي بدأ الأطباء فيها بإعادة إحياء المستشفى، لم يتمكّنوا فيها إلّا من تشغيل قسم غسيل الكلى وقسم الاستقبال والطوارئ، واللذين عملا بطاقة تشغيلية محدودة، وذلك بسبب عدم توفر الكهرباء والمستهلكات الطبية، والعدد المحدود من الطواقم الطبية التي استطاعت العودة إلى العمل في المكان. وفي الوقت الحالي، تمكنت وزارة الصحة من توسيع العمل في غرف العمليات، وتشغيل أربع غرف جديدة، عوضاً عن واحدة». ويتابع المصدر أنه «في الأسابيع الأربعة الماضية، تمكنت وزارة الصحة من إعادة تفعيل قسم الاستقبال والطوارئ، وذلك بعدما قدمت الجهات الدولية دعماً أسبوعياً للمستشفى بـ5 آلاف لتر وقود أسبوعياً، وقدمت مساعدات من المستهلكات الطبية».
غير أن المعيقات التي تعترض عودة المستشفى إلى العمل بكامل طاقته، كبيرة أيضاً، تبدأ من عدم توفر بيئة عمل مناسبة بسبب الازدحام الشديد الذي يسبّبه تواجد النازحين، ولا تنتهي بالنقص الحاد في الكادر الطبي. ووفقاً للمصدر نفسه، «يتولى مهمة تنظيف المستشفى المئات من المتطوعين، وهناك أيضاً العشرات من المتطوعين من الممرضين، فيما الأزمة الأكبر من جهة الكادر البشري، تتلخص في عدم توفر كفاءات طبية يمكنها التعاطي مع هذا العدد الهائل جداً من المصابين. مثلاً، لا يوجد في المجمع سوى طبيب أعصاب واحد هو الدكتور رامي السوسي، الذي يتكبد عناء القيام بعشرات العمليات الجراحية يومياً، ويضطر للمفاضلة، إذ يقدم الحالات الأقل خطورة التي من المأمول شفاؤها، على الحالات الصعبة التي تستغرق جهداً ووقتاً طويلاً، من دون فرص كبرى للنجاح». وفي ما يخص العظام، يفيد المصدر بأن «الضغط على إصابات الكسر والبتر مهول جداً، ولا أطباء متخصّصين فيها سوى الدكتور هاني القرشلي، الذي يضطرّ، أثناء إجراء عشرات العمليات يومياً، للقيام بمهمة الإشراف، بينما يعمل أطباء متطوعون هم خريجو الجامعات وطلبة الامتياز على إجراء العمليات، ما ينعكس على جودتها». ويبيّن أن «أكثر العمليات التي يقوم بها الأطباء الجدد وطلبة الجامعات خطيرة جداً، وتحتاج إلى خبرة طويلة، وينعكس ذلك على مستوى جودة العمل، فيما تكشف صور الأشعة لجرحى العظام عن نتائج سيئة جداً». مع ذلك، يقوم «الشفاء» بإجراء العمليات الجراحية للحالات التي يستقبلها من مستشفيات الخدمة العامة والمعمداني في مدينة غزة، وهو ما اضطرّه إلى زيادة ساعات عمل الطاقم الطبي، من مدة محدودة من الساعة الـ8 صباحاً وحتى الـ12 ظهراً، إلى الساعة الـ8 مساءً.