عندما تسلَّم محمد شياع السوداني رئاسة الوزراء في العراق في تشرين الأول 2022، كممثّل عن «الإطار التنسيقي» الذي امتلك أكبر كتلة برلمانية بعد انسحاب «التيار الصدري»، ظهر الأمر على أنه تسوية أميركية - إيرانية، بل هدية أميركية لإيران، مقابل استقرار كانت تحتاج إليه واشنطن في ذروة الحرب الأوكرانية، لتهدئة الاضطراب الناجم عنها في أسعار النفط، ولا سيما أنّ السعودية لعبت حينها، مع روسيا، دوراً صنّفته الولايات المتحدة «سلبياً» في هذا الموضوع بالذات. لكن يتّضح اليوم أنّ الأمر لم يكن كذلك أبداً؛ فالاتفاقات التي توصلت إليها واشنطن مع بغداد، وخصوصاً في ما يتعلق بدور القوات الأميركية التي تحوّلت مهمتها إلى «استشارية»، هي من النوع الذي «يكتّف» الأخيرة. فالمفاصل الأساسية لا تزال بيد الولايات المتحدة، وخاصة المالية منها، باعتبار أنّ غالبية مبيعات النفط التي يعتاش عليها العراق، تصبّ في حساب تابع للاحتياط الفيدرالي الأميركي في نيويورك، وتستطيع الولايات المتحدة عبره تقنين وصول الدولارات إلى العراق، والتلاعب بسعر عملته، وصولاً إلى خنقه اقتصادياً. وهي نفّذت بالفعل عدّة مناورات أوصلت إلى العراقيين تلك الرسالة، في حين كانت تحرص على تحييد علاقتها بإيران عن الساحة العراقية التي شهدت هدوءاً نسبياً بين الطرفين.لكن الإيرانيين ليسوا من النوع الذي يثق بالأميركيين. وبالتالي، وعلى هامش الاتفاق الذي أفضى إلى تأليف حكومة السوداني، بقيت فصائل مقاومة خارج هذا الاتفاق، وهي أصلاً مدرجة على لوائح العقوبات الأميركية. ولكن هذه الفصائل كانت تتفهّم حرج السوداني وتعمل وفقاً له، وبالتالي، لم تقم بما يعكّر صفو الصفقة. على أنّ كلّ ما تقدّم كانت تمليه الظروف، التي وحدها يمكن أن تتحكّم في وتيرة علاقات بين دولتين كإيران والولايات المتحدة، وفي منطقة مضطربة كالشرق الأوسط، فيما تغيّر الظروف وحده الكفيل بقلب تلك المعادلة. والتغيّر الكبير الذي مثّلته عملية «طوفان الأقصى» وما تلاها من حرب في غزة، ما كان يمكن إلا أن يعيد خلط الأوراق في كل الساحات التي كانت تتنازع فيها الدولتان، باعتبار أنّ طهران تعتبر نفسها معنيّة بالقضية الفلسطينية، بقدر ما تعتبر واشنطن نفسها معنية بإسرائيل. ولذا، كان لا بدّ من أن ينعكس الأمر على الساحة العراقية التي اختارت مقاومتُها، مثل ما هو الأمر في لبنان واليمن، مساندةَ غزة، وتكفّلت بفعل ذلك عبر ضرب القواعد الأميركية في سوريا والعراق، ثمّ في الأردن.
لكن ثمة إشكالية ظهرت في العراق لا تنطبق على الساحات الأخرى التي يعمل المحور فيها. ففي تلك الساحات، لم يتم استهداف الأميركيين إلّا عندما تدخّلوا مباشرة لحماية إسرائيل، كما حدث في البحر الأحمر. وحتى في هذه الحالة، تحجّجت واشنطن بأن العمليات اليمنية «تعرقل الملاحة الدولية». أمّا في العراق، فجرى الاستهداف من دون أن تتدخّل الولايات المتحدة بشكل ظاهر انطلاقاً من قواعدها هناك، لدعم الاحتلال الإسرائيلي في حربه على غزة. وهنا كمنت الإشكالية، ولا سيما أنّ الجنود الأميركيين الموجودين على الأراضي العراقية، يعملون ضمن مهمة استشارية، ولو كانت فعلياً غير ذلك، وتحميهم اتفاقات مع الحكومة العراقية.
لذا، من البداية، سبّبت ضربات المقاومة أزمة داخلية في العراق، بين السوداني الذي انضمت إليه قوى وازنة في «الإطار التنسيقي» منها مثلاً «عصائب أهل الحق» و«ائتلاف دولة القانون» وغيرهما، وبين فصائل المقاومة التي تصدّت لموضوع التضامن مع غزة، عبر ضرب القواعد الأميركية، ثم أضافت إلى مطالبها انسحاب القوات الأميركية الكامل من العراق، وفقاً لقرار البرلمان المُتّخذ عام 2020، غداة اغتيال الحاج قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس ورفاقهما.
هل كان السوداني ومن معه ينطلقون من مجرّد الالتزام باتفاق موقّع مع واشنطن، أم أن ثمة مصالح نشأت منذ توقيع الاتفاق، تشمل جوانب أخرى، اقتصادية مثلاً، تتعلق بكمية الدولارات التي تسمح الولايات المتحدة بوصولها إلى العراق، وعبر أي قنوات وأي بنوك وشركات، ومن هو القيّم على تلك البنوك والشركات؟ الواقع يفيد بأن مثل هذه المصالح هي التي تتحكّم في المواقف، وإلّا ما تفسير تلك الموجة من الاستنكارات بعد الضربات الإيرانية الأخيرة لمواقع معارضة كردية إيرانية وأخرى للموساد الإسرائيلي في شمال العراق، والتي انضمت إليها معظم القوى التي تُعتبر حليفة لطهران، ووصلت حدّ تقديم شكوى من الحكومة العراقية إلى مجلس الأمن ضدّ إيران، علماً أن من قُتل في الهجوم هو رجل الأعمال الكردي، بيشرو دزيي، المعروف بعلاقته بالإسرائيليين، وهذا ما لمّح إليه مقتدى الصدر في بيانه، الذي انتقد فيه التواجد الإسرائيلي في كردستان العراق غداة الهجوم.
هذا الشرخ العراقي الكبير، هو الذي أتاح لواشنطن التهديد بردّ عنيف يمكن أن يغيّر قواعد اللعبة مع طهران في العراق، على أقلّ تقدير، بعد هجوم الأردن، الذي مثّل ضربة قاسية للولايات المتحدة، بأبعاده المختلفة من حيث المكان وحجم الخسائر. ولكن واشنطن تعلم تماماً أنّ طهران قادرة أيضاً على قلب الطاولة في طول الشرق الأوسط وعرضه، وفي البر والبحر. ولذلك، اختار الرئيس جو بايدن التعقّل رغم التحريض الكبير - في غمرة حملات انتخابية شرسة -، والذي ربما هدف إلى توريطه. والجنوح إلى التعقّل كان سابقاً لبيان «كتائب حزب الله العراق» التي أعلنت وقف العمليات ضد القواعد الأميركية مؤقتاً، حتى انتهاء مفاوضات انسحاب قوات «التحالف الدولي» الجارية حالياً، وهو رُكن إليه لاعتبارات عراقية محض تتعلق بالخلل المشار إليه آنفاً، خصوصاً أن الإعلان لم يشمل وقف العمليات المباشرة ضد إسرائيل، والتي لا تستطيع الولايات المتحدة الاعتراض عليها.
السؤال الأساسي يبقى هو: هل نجحت واشنطن في تحييد الساحة العراقية عن نصرة غزة، أم فقط في منع عودة المقاومة لطرد القوات الأميركية التي لا يبدو أبداً أنها في وارد الانسحاب، فيما المفاوضات الجارية حالياً، لا تبدو أكثر من محاولة لتجميل الاحتلال؟