الآن، أتذكرُ الشاعر محمود درويش، فصورته ماثلة أمام بصري، وصوته المتهدج الواضح يملأ سمعي، ونداوة عينيه تلمع لكأنها المرايا المتقابلة في رهجها وصورها، وأصابعه التي تتحرك في صخب يشبه صخب أغصان الأشجار وهي تتلوّى طي فضاء الريح الناشطة. أتذكره وهو يكتبُ عن البيوت التي عاش فيها مقيماً، وقد تركت مغادرتُهُ إياها لوعةً فزعُها شديد، وتذكّرها موجع، وألفتها شارخة للطمأنينة. وأتذكره، حين تقاسمنا وإياه ليلاً طويلاً في عمّان شال بنا سحراً، وحديثاً، وذكريات لم تحوّم حول الشعر، ولم تذكره أو تستعيده، بل حوّمت حول البيوت وألفتها، والبيوت والمكان الاستعاري، والمكان الأليف الموجوع في تكوينه وهيئته كالمخيّم، والصريح في تعبيراته الصباحية والمسائية، بأنه مكان طارئ، مكان بديل، مكان لا نسب له أو علاقة بالأبدية، ومكان لا يشبه الأشجار لأنه، وإن كان له ثمر، بلا جذور.أتذكّرُ محمود درويش، وحديثه عن الأمكنة والبيوت التي عمّتنا وهمّتنا وشغلتنا بالطوفان حولها، وبالرجاء إليها أن تعود إلى فطرتها وصورتها السحرية الأولى الأليفة في ثباتها وجمالها ونداءاتها على أهلها الذين هم على مبعدة نَفَس واحد دافئ وحميم منه. أتذكّره، وأنا أرى انكساري وجثوتي أمام ركام بيت خالد أبو خالد، شاعر فلسطين المحارب، الفدائي الذي سلخ عمره كلّه من أجل أن تصير مغامراته قرب نهر الأردن، وفي الجنوب اللبناني، دانيةً في الشبه من مغامرات أوديسيوس الإغريقي وهو في طريق عودته إلى إيثاكا مدينته. لقد نجا من المواجهات في العمليات الحربية، ونجا من لدغ الأفاعي في الخنادق، ونجا من حرائق الشوق، وهو يرى أضواء بيوت أريحا وشوارعها قناديل من ضوء سحري تشعلها أيدي البحر الميت منذ لحظات الغروب الأولى. ونجا من نوبات الحنين وبكائه الرّاج في الليالي الطويلة الباردة. ونجا من انقطاع النفس وهو ينادي، بصوته الأبحّ، البيوتَ الفلسطينية أمّهات الأشجار والحواكير والقناديل والقناطر والأسوار الباديات تلويحاتٍ للأيدي المتصاعدات التواءً في حضرة الهواء الرّهو.

ها هو بيت الشاعر خالد أبو خالد أمامي، وقد جثا جثوةً فيها كثير من الهيبة والمهابة والجلال، بعد أن أصابته صواريخ الإسرائيليين حاملة النار، والعطب، والحزن، والخراب. ها هي كتبه الكثيرة، يا لجمال كثرتها وتعدد حجومها وألوان أغلفتها، بادية في عناق مدهش رزين. وها هي كوفيّته وبدلة الفوتيك الأخضر الشّارقة بالضوء رغم ما أحاط بها من غبار. وهذا هو العلم الفلسطيني متجلياً بألوانه الأربعة في علوته الباطونية. وهذه أوراقه وأقلامه وقنديله الصغير الأزرق الذي رافق بضوئه ضوء أسطر الشعر الشارقات. وهذا الكوب الذي كان يشرب منه قهوته التي يصنعها بنفسه. وهذه عناوين دواوينه مترادفات واحداً واحداً. وهذا حذاؤه المهيب بنعله الكاوتشوكي الذي كان يسميه الديناصور الذي لا يهاب مطراً أو ثلجاً أو برداً. وهذا معطف الفدائية بأزرته الذهبية وقد ثقبته قضبان الحديد. وهذا وهذا وهذا... آااخ، كم يعذّبني التعداد، وكم تعذّبني الرؤية، وكم تجرحني الألفة، فقد جئت إلى هذا البيت زائراً مرّات ومرّات، وطوال سنوات، فعرفته في كلّيته، فهذا البيت لم يكن بيت خالد أبو خالد وحسب، بل كان بيت أهل الآداب والفنون، وعشّاق البلاد الفلسطينية العزيزة، عشّاق التاريخ، والحكايات، والأمكنة، والأحداث، والأخبار، والحادثات، عشاق الزعتر والميرمية والمقروطة والزلابية. وجئت إلى هذا البيت لأقيم فيه حين لحقَت بأسرتي نارُ العشرية الدموية في سوريا فدمّر بيتي في مخيّم سبينة، فشردت وأسرتي في هجرة قسرية إلى بيت خالد أبو خالد البعيد قليلاً من الدمار والخراب والنار وحرائق الناس وهم يرون بيوتهم تحترق، هي وما فيها!
هاتفته في الفجر، قلت له: شاعرنا أبو خالد، ضاقت الدنيا عليَّ، اجتاحتني النار، وعمّتني الحيرة وقلّة الحيلة، ودخل جحيم الحرب إلى بيتي، قال صارخاً: دع كلّ شيء وانجُ بنفسك وأهلك، وتعال إليَّ، تعال إلى بيت الفلسطينيين، كلّ الفلسطينيين هنا، وما كان يقصد سوى بيته، فذهبت هناك، وطوال أيام المحنة، والخوف، والأسئلة المرّة والانتظار المخيف، عرفت بيت خالد أبو خالد بتفاصيله... وعشقته!
يا لعشقي لهذا البيت الذي بناه خالد أبو خالد، وزوجته أم وسام، بعرقهما، بعد أن عاشوا وعملوا وتعبوا في الكويت، في رحلة منفى آخر، وبُعد آخر، وحنين آخر، بنى الاثنان بيتاً كان بعيداً جداً من مدينة دمشق، لكنه، ومع سعة العمران، واندفاعة الزمن، صار في قلب دمشق. بيت ملموم مثل حبة لوز. له حديقة تشبه حاكورة بيت أبو خالد الشهيد، رفيق القسام، في نابلس. ياااه... أذكر الآن فرحة أبو خالد الشاعر، حين دهمت خلية نحل حاكورته بشقرة نحلها، بدا لي لحظتئذٍ طفلاً ممتلئاً بالدهشة وهو يراقب اجتماع النحل على جذع شجرة الخروب، سمعته يقول: انتهت الحرب، وهذه هي البشارة.

الآن، وأنا في جثوة الحزن أمام بيت خالد أبو خالد الذي جثا مرغماً أيضاً، أتذكّر بيت جبرا إبراهيم جبرا الذي دمّره الأميركان في شارع الأميرات في بغداد/ دار السلام، فلوحات خالد أبو خالد الفنان التي صارت حطاماً هنا، هي لوحات جبرا إبراهيم جبرا التي صارت حطاماً هناك في بغداد، وكتبه التي تمزّقت أوراقها وأغلفتها هنا في دمشق، هي كتب جبرا إبراهيم جبرا التي تناثرت واحترقت هناك في بغداد، فيَدُ الخراب واحدة، والروح الشريرة واحدة، والغاية السوداء الحاقدة واحدة.
نعم، أنا الآن أبكي الكتب، فدائماً ما قرأتُ، وطوال شهور، في كتب خالد أبو خالد، ولكم ساهرتها، وساهرتني، ولكم أعطتني من نفع وبركة ومعرفة، وأنا أرى هوامشها مملوءة بحبر أقلام خالد أبو خالد وتعليقاته المدهشة. قرأت كتب الميثولوجيا الفلسطينية بحكاياتها التي تروي تاريخ القرى، والبراري، وقصص أهل الحجيج للقدس وبيت لحم والجليل وطبريا. وقرأتُ كتب ميثولوجيا الإغريق التي عشقها خالد أبو خالد ودقّ وتد روحه إلى عودة أوديسيوس تلك العودة البحرية المحتشدة بالتعب والشوق، والرهق، والصعوبات، والعواصف، من أجل الوصول إلى إيثاكا، فقال: عودتنا الفلسطينية هي عوديسا جبلية صعبة، وذات شوق عميم، وعواصف لا تنتهي كرمى العودة المحلومة، وهذه هي كتب الحنين والحزن والعمل والصبر، وكتب القرى والعمران والعلوم.
بلى، المكان هوية، والبيوت أرواح، فها أنا ذا أنتشل طولي وأنهض، فأسمع كلام كلّ من يحيطون بالبيت، وهم يرددون اسم فلسطين، واسم خالد أبو خالد، لكأنهم يعزفون موسيقى، أو يرتلون، أو ينشدون نشيداً فيه جملة راجّة تملأ قلبي وصدري وعقلي وبصري... تقول: بلادي، بلادي!

* يوم السبت 1/20/2024 استهدف هجوم إسرائيلي مبنى سكنياً في منطقة المزة في دمشق، ما أدّى إلى تدمير منزل الشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد (الواقع ضمن المبنى) والذي يضم مكتبة ضخمة للشاعر وعدداً من اللوحات بريشته