غزة | منذ 120 يوماً، يعاني أهالي قطاع غزة من ويلات حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل. والأمر لا يتعلّق بالقتل المباشر فقط، بل يتعدّى ذلك، وقد وصل إلى قوتهم اليومي. هذه الظروف خلقت واقعاً جديداً للغزيّين، فأصبحوا منهكين، يتعلقون بقشّة أمل بأن ينتهي هذا الواقع الصعب والمؤلم الذي يعيشونه. الواقع الجديد للقطاع أصبح يُستخدم ضد الغزّيين أنفسهم، وأصبح يستخدم كورقة ضغط في المفاوضات الجارية بين العدوّ الصهيوني والولايات المتحدة، من جهة، وبين قطر التي تمثّل الجانب الفلسطيني، كما يبدو، من جهة أخرى.
مساء الخميس الماضي، أعلنت قناة «الجزيرة» القطرية، على لسان الخارجية القطرية، أن «إسرائيل وافقت على مقترح وقف إطلاق النار، ولدينا تأكيد إيجابي أوّلي من حركة حماس». الخبر الذي تلقّفه أهالي القطاع، بإيجابية كبيرة، جعلهم يخرجون في الشوارع مهلّلين ومكبّرين، احتفالاً بانتهاء هذه الإبادة الجماعيّة التي قتلت منهم أكثر من 27 ألف مواطن. لكن سرعان ما سحبت «الجزيرة» الخبر، فانتهت الفرحة العارمة التي ملأت قلوب الغزيين، وعادوا إلى مآويهم يجرّون خلفهم خذلانهم، وأغلب ظنّهم أن هذه الإبادة لن تنتهي. هذا الأمل الكاذب، الذي جاء على لسان الخارجية القطريّة، جعل الناس في غزة ينسون للحظة كلّ الألم الذي مرّ عليه نحو 4 أشهر، فاحتفلوا، وسرعان ما خمد الفرح، بينما الحرب لم تضع أوزارها.
هذه اللحظة، التي سُرقت من عمر هذه الحرب، كانت كفيلة بجعل أهل غزة يفقدون الثقة بقطر وقناتها (الجزيرة)، التي رافقتهم طوال هذه الحرب بتغطيتها المفتوحة. وهذه اللحظة أيضاً جعلت الكثير من الناس يحلّلون ويفهمون أن الدور القطري في هذه الحرب دور مشبوه، يستهدف وعي ومشاعر أهالي القطاع للضغط من خلالها على المقاومة، لتقبل بأيّ شروط كانت إرضاءً للمواطنين الذين يأملون انتهاء الحرب وهم أحياء.
سرعان ما سحبت «الجزيرة» الخبر، فانتهت الفرحة العارمة التي ملأت قلوب الغزيين، وعادوا إلى مآويهم يجرّون خلفهم خذلانهم


أطلق مايكل باريتني مصطلح «اختراع الواقع» على دور الإعلام كسلعة سياسيّة - اقتصاديّة، تصاغ بحسب رؤية النخب الاقتصاديّة، لأهداف الهندسة الاجتماعيّة البحتة. منها تزييف أو تغييب الحقائق للمشاهد، بهدف تخديره أو تغيير رأيه تجاه قضايا معينة لا تروق المؤسسةَ الحاكمةَ في الولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي إذا أسقطناه على واقعنا العربي نجد أنّه مع صعود قناة «الجزيرة» في التسعينيات، ازداد دور الإعلام كسلعة تسعى إلى تحقيق أهداف مشيخة قطر، وباقي الأنظمة العربيّة، بحسب المصالح - تلاقيها وانفصالها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، دور «الجزيرة» في تطبيع الوجود الصهيوني على الشاشات العربيّة عبر استضافتها للمتحدثين باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي مثل أفيخاي أدرعي، أو ممثلين عن الجيش الإسرائيلي، هو دور مشبوه، لكنه دور يروق الطبقةَ الحاكمةَ في دولة قطر وأنظمة عربيّة أخرى، يسهّل عليهم كيّ وعي المشاهد العربي، ومن ثمّ يسهّل عليهم تحقيق فكرة التطبيع مع دولة الكيان الصهيوني أمام الشعوب التي اعتادت المشهد في بيوتها.
هذا الاختراع للواقع، المستمر منذ تسعينيات القرن الماضي، لا يتم فهمه في سياق منقطع عن دور الأنظمة المتواطئة مع الاحتلال الصهيوني في صناعة رأي يتقبّل العدو الصهيوني كأنه واقع مفروض على الإنسان العربي، وعليه التعايش معه. «القوة الناعمة» التي تستخدمها «الجزيرة» في صناعة «الرأي» تستخدم ضد الفلسطينيين أنفسهم في كثير من الأحيان، فلا يمكن فهمها بعيداً عن طموحات الأنظمة في كسر وعي الإنسان الفلسطيني صاحب الرواية الفلسطينيّة لهذه الأرض، الرافض لكل ما يدعو إلى تطبيع وجود المحتل على أرضه.
وبالعودة إلى البداية، الإبادة المستمرة في غزّة خلقت واقعاً جديداً سينتهي بكل تأكيد، وسيخلق أهل غزة واقعاً جديداً لن ترصده «الجزيرة» لأنه في الغالب لن يروق لما يحاك في أروقة القصر الأميري. الواقع المقبل واقع رافض لاستغلال الإنسان الفلسطيني من أجل تمرير الأفكار الدخيلة عليه وعلى الإنسان العربي. فهذا الواقع الذي سينشأ بحكم الأمر الواقع، سيكون خط الدفاع الأول عن عقل الإنسان الفلسطيني والعربي الحرّ الرافض لكل أشكال الاستغلال والابتزاز لمعاناة الإنسان على هذه الأرض، لمصلحة الاحتلال الصهيوني أو مصالح الاستعمار والأنظمة العربية.