غزة | ثلاثة أيام كانت قد مضت على السابع من أكتوبر، حين أُنذر الآلاف من سكان حيّ العامودي الذي يقع في القاطع الغربي لمحافظة شمال غزة، بإخلاء منازلهم على الفور، عبر تهديدات باتصالات هاتفية من ضباط جهاز الاستخبارات الإسرائيلي، أو من خلال منشورات ورقية أُلقيت من الجو، ثم بالقصف المدفعي العنيف. ووفقاً لاتصال تلقّاه أبو محمد الضبع، فإن الضابط التي يتحدّث اللغة العربية بطلاقة، أخبره، في حديثه معه الساعة الثالثة فجراً، بأن منزله يقع في منطقة عمليات خطيرة وكبرى، وبأن عليه أن يخليَه على الفور. منذ فجر ذلك اليوم، وحتى يوم أمس الجمعة، لم يتمكّن الرجل الخمسيني من العودة إلى منزله حتى خلال وقف إطلاق النار المؤقت، الذي استمرّ مدة سبعة أيام. أمس، عاد مَن لم ينزح من سكان الحيّ إلى جنوب القطاع، لتفقُّد المنازل التي غابوا عنها نحو 120 يوماً، بعد الانسحاب الكبير الذي تراجعت فيه الدبابات الإسرائيلية حتى موقع «زكيم»، أقصى شمال بلدة بيت لاهيا.يصيبك المشهد الذي ستراه وأنت تقف على تلة مرتفعة مجاورة لحيّ السلاطين، وتكشف حيّ العامودي، بالخشوع: آلاف المنازل التي كانت تَحجب مشهد البحر، سُوّيت بالأرض تماماً. «العامودي»، الحيّ حديث البناء، لم يكن قبل عشر سنوات مأهولاً بأيّ بناية سكنية، غير أن الاكتظاظ السكاني في الأحياء التقليدية، تسبّب بالتمدّد إليه. يقول أبو محمد: «كنت أسكن في مخيم جباليا، تمدَّدت العائلة، وصار عليّ أن أبني منزلاً جديداً من عدّة طبقات لأؤمن مستقبل أبنائي، اشتريتُ قطعة أرض هنا، لأنها أجمل مناطق شمال القطاع، أرض مرتفعة، تطلّ على البحر، وسكانها من الموظفين أو كبار التجار. لم نكن نتوقّع أن هذا الحيّ سيكون عرضة لكل هذا القدر من التدمير». يتابع الرجل حديثه إلى «الأخبار»: «دخلتُ المنطقة، والله لم أعرف الشارع الذي كنت أعيش فيه، آلاف الوحدات السكنية والمنازل سُوّيت بالأرض، وخطَّ الجنود على جدرانها عبارات استفزاز بالعبرية، ورسموا نجمة داود».
يصيبك المشهد الذي ستراه وأنت تقف على تلّة مرتفعة مجاورة لحيّ السلاطين، وتكشف حيّ العامودي، بالخشوع


في «العامودي»، تختفي المعالم الطوبوغرافية تماماً، حيث الشوارع مغلقة بالأبنية والعمارات السكنية، فيما المنازل التي لم تُنسف بالديناميت أو بالغارات الجوية، حُرقت تماماً. على باب فيلا من عشرات تعرّضت للتخريب في المنطقة الشمالية للحيّ، كان يجلس أبو صبري عقل. يقول لـ»الأخبار»: «أنا تاجر، سكنت في مكان بعيد عن الاكتظاظ السكاني، لأنو نسق حياتي محصور في العائلة الصغيرة والعمل، كل المنازل الجميلة التي تحيط بي، سكانها من أمثالي، الفيلا الخاصة بي لم تُدمَّر بالقصف، إنّما دخلها الجنود، وسكنوها، ثم حرقوها، وتركوا لي على باب المنزل تذكاراً نجمة داود وتحتها باللغة العربية: ارحل».
عملية تدمير الحيّ، الذي لن تجد فيه منزلاً واحداً يمكن استصلاح غرفة واحدة منه، تشير إلى أن الهدف يتجاوز الحاجيات العسكرية، إلى مضامين أكثر عمقاً، إذ من المهمّ أن يطبّق جيش الاحتلال ما كان يهذي به الصحافيون الإسرائيليون في الأيام الأولى من الحرب: «لن تجدوا منازل تسكنونها عندما تعودون بعد الحرب (...) ستتقلّص مساحة غزة». من المهمّ هنا، أن توفّر هذه الحرب كل الظروف المنطقية للرحيل؛ ولذا، يقول أبو مهند المصري: «دمَّروا كل مزارع الدجاج، وكل بيوت العائلة، عدت وأنا في سنّ الستين على الحديدة. بدهم يطفشونا من البلد، خابوا وخسروا، تحت خيمة نايلون بسكن أنا وزوجتي وولادي وما بسيب هالأرض، كرامتنا هان، وإلي بعيش بعمر وبثمر».
أمّا محمد بعلوشة، وهو موظف حكومي، دُمّر منزله أيضاً، فيرى، في حديثه إلى «الأخبار»، أن رسالة الدمار، والسماح للأهالي برؤية منازلهم دون استهدافهم، هي أن نغادر هذا الأرض. ويستدرك: «الحقيقة، هم لا يفهموننا، ولا يقدّرون قدر الجلَد والصبر الذي يمكن أن نبذله في سبيل الحياة الكريمة، أو الموت الكريم».