رام الله | استغلّت الولايات المتحدة التحوُّل الكبير الذي طرأ على برنامج "منظمة التحرير الفلسطينية"، وجنوحها نحو التسوية مع إسرائيل تحت مسمّى "حل الدولتين"، كعنوان لسياستها في المنطقة منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، حين أعطت لنفسها الحقّ في رعاية عملية التسوية. هكذا، أتقنت واشنطن، طيلة العقود الماضية، ابتزاز "منظمة التحرير" بشروط ومتطلّبات لا تنتهي، فيما لا تملّ بعثَ الحياة في عملية التسوية متى أرادت ذلك، أو متى تضرَّر نفوذها وتأثيرها في المنطقة. وممّا تقدَّم، لا تعود مستغرَبة عودة الحديث الأميركي عن حل الدولتين بعد "طوفان الأقصى"، وبعدما بدّدت المقاومة الوهم القائل إن إسرائيل "قوّة لا تُقهر". على أن "منظمة التحرير" التي بلعت "الفيلم الأميركي"، المحبوكة تفاصيله جيداً منذ مؤتمر مدريد مروراً بأوسلو، ومحادثات كامب ديفيد وطابا، وخريطة الطريق، وكيث دايتون، واللجنة الرباعية وكل السلسلة الطويلة، لم تستطع الخروج من السطوة الأميركية أو تحديد طبيعة العلاقة مع الولايات المتحدة، التي تصرّ على أن تكون المتحكّم بالمنظمة.أما العقوبات الأميركية على "منظمة التحرير" أو الفلسطينيين عموماً، فلا تتصل بإدارة معينة، بقدْر ما هي سياسة متتابعة ومتوارثة؛ فإذا كان الرئيس السابق، دونالد ترامب، قرّر - مثلاً - نقْل سفارة بلاده إلى القدس، واعترف بالأخيرة عاصمةً لإسرائيل، وجمّد تمويل "الأونروا"، وأغلقَ مكتب "منظمة التحرير" في واشنطن، فإن إدارة جو بايدن لم تتراجع عن الخطوات الآنفة، إذ لم تُعِد فتْح البعثة الدبلوماسية للمنظمة على رغم تعهّدها بذلك، فيما عادت لتُجمّد تمويل "الأونروا"، بل إن مجلس النواب الأميركي صادق بأغلبية 422 عضواً مقابل صوتين فقط، قبل أيام، على مشروع قانون يوسّع حظر دخول مسؤولي "منظمة التحرير" إلى الولايات المتحدة، ليشملهم جميعاً، إضافةً إلى أعضاء حركتَي "حماس" و"الجهاد الإسلامي". وعلى رغم أن المشروع بحاجة إلى تصديق مجلس الشيوخ ثم الرئيس، ليصبح قانوناً ساري المفعول، إلا أن دلالته واضحة في سياق السياسة الأميركية إزاء المنظمة ومن خلفها السلطة الفلسطينية، خصوصاً لتزامنه مع انبعاث الحديث عن "حل الدولتين".
وإذا كانت "منظمة التحرير" اعتبرت على لسان أمين سرّ لجنتها التنفيذية، حسين الشيخ، القانون الجديد "قراراً خطيراً تجاه ممثّل الشعب الفلسطيني الشرعي والوحيد، ويمسّ بحقوق شعبنا، ويتجاوز الموقف الأممي الذي يقرّ بهذه الحقوق"، فإن ثمة سؤالاً يُطرح حول عدم اتخاذ المنظمة أيّ قرار تجاه واشنطن منذ أشهر، على رغم مشاركة الأخيرة في العدوان على غزة، وعدم التزامها بأيّ قرار اتّخذته سابقاً بتجميد علاقاتها مع الأميركيين. على أن المستغرب في موقفها، هو مطالبة الشيخ، الإدارة الأميركية بالردّ و"توضيح القرار"، وكأنّ القرار غامض أو غير مفهوم، أو كأنّ المنظمة لم تكن مستهدفة من قِبَل الإدارات الأميركية خلال العقود الماضية.
أمّا رئاسة السلطة الفلسطينية، فلم تغادر كليشيهات الردّ المعتادة، والتي تطغى عليها عبارات الإدانة، حيث قالت إن "هذا القرار يتناقض مع قرارات الإدارة الأميركية المعلنة، وسيؤثر سلباً في دورها ومصداقيتها في حلّ الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي القائم على أسس الشرعية الدولية وفق حل الدولتين". كما وصفت القرار بـ"الخطير، وبأنه يمسّ بحقوق الشعب الفلسطيني، ويتنكّر للقرار الأممي الذي يقرّ حقوقنا ويعترف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني. هذا القرار لا يخدم الجهود المبذولة على كل الصعد من أجل خلق مناخ مناسب للاستقرار والأمن في المنطقة بأسرها".
ويشي هذا الموقف، إلى جانب سياسة السلطة على الأرض، بالعجز عن اتّخاذ أيّ قرار جريء حيال سياسة الولايات المتحدة ومواقفها؛ فالسلطة التي وضعت كل خياراتها في سلّة التسوية الأميركية، يبدو أنها لا تمتلك سوى شراء الوهم الذي تبيعه الإدارات الأميركية المتعاقبة، فيما المثير للسخرية أنها تخشى أن يؤثّر القانون الجديد على دور واشنطن ومصداقيتها في حلّ الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي على أسس "الشرعية الدولية"، وكأن ما لمسته السلطة خلال السنوات الماضية، كان ملؤه الصدق.