على قدْر ما شكّل العدوان على قطاع غزة «فرصةً» لكلّ من الولايات المتحدة وإسرائيل لاختبار أسلحتهما في الميدان الفلسطيني، فقد وفّر مسرحاً إضافياً لرصْد إرهاصات تولّد نظام عالمي جديد، يتّسم بحضور لافت لقوى دولية صاعدة، من بينها الهند. لكن موقف نيودلهي، ذات الدور التاريخي في تأسيس حركة «عدم الانحياز»، بدا، منذ اللحظات الأولى، شديد الانحياز إلى «تل أبيب»، وفقاً لما ظهّره إعلان رئيس وزراء الهند، ناريندرا مودي، «التضامن» مع كيان الاحتلال، وإدانة ما سمّاها «الهجمات الإرهابية». على أن هذا الموقف عاد و«نقّحه» لاحقاً وزير الخارجية الهندي، سوبرامانيام جايشانكار، حين أعاد التذكير بمقاربة بلاده للصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والمرتكزة على «حلّ الدولتين»، في ما يمكن عدُّه مؤشّراً إلى ارتباك السياسة الخارجية الهندية، التي ظلّت، مع ذلك، تعطي انطباعاً بالتناقض مع الإرث الديبلوماسي للهند، والمؤيّد تاريخياً للحقوق الفلسطينية. ومن هنا، لم تكن مفاجئةً معارضة الهند التصويت لمصلحة مشروع قرار لوقف إطلاق النار في غزة داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة أواخر تشرين الأول الماضي، بدعوى عدم إدانته حركة «حماس»، علماً أن معارضتها تلك تناقضت مع مواقف العديد من بلدان «الجنوب العالمي»، وجاءت مخالفةً للسجلّ التصويتي الهندي في هيئات الأمم المتحدة في القضايا المتعلّقة بفلسطين.ومع تفاقم الوضع في البحر الأحمر، وارتداداته «السلبية» على حركة التجارة العالمية، ومن ضمنها تأثّر جانب كبير من تجارة الهند الخارجية مع أوروبا عبر ذلك البحر، والمقدّرة قيمتها الشهرية بنحو 14 مليار دولار، واصلت نيودلهي إرسال إشارات متناقضة في هذا الخصوص، وسط أنباء عن استجابة إحدى بوارجها الحربية لـ«نداء استغاثة» من قِبَل سفينة تجارية بالقرب من مضيق باب المندب، في موازاة إعلان عزمها خوض مباحثات ديبلوماسية مع طهران، بصفتها العاصمة الحليفة لحركة «أنصار الله» في اليمن، لبلورة حلول لهذه الأزمة.

سياستان خارجيتان للهند؟
يشير محلّلون إلى وجود تيارات مختلفة في دوائر صنع السياسة الخارجية للهند، على رأسها تيار «عدم الانحياز» الذي لا يزال وازناً. ويرى هؤلاء أن البناء على المواقف الأولية الصادرة عن رئيس الوزراء الهندي عقب أحداث السابع من أكتوبر، للجزم بتخلّي نيودلهي عن نهجها التقليدي، المستند إلى مبدأ «عدم الانحياز»، ينطوي على قدْر من المبالغة والتسطيح. صحيح أن السياسة الخارجية للهند مرّت بانعطافات في أكثر من ملفّ في السنوات الأخيرة، على غرار الملفّ النووي الإيراني، وأخيراً حرب غزة، إلا أنها تبقى ذات طابع بطيء ومتدرّج. ويُنظر في أوساط الأكاديميين الهنود، إلى أن مواقف مودي الداعمة لإسرائيل، تشي بتباينات داخل أروقة صنع القرار في نيودلهي، في المسائل المتعلّقة بالسياسة الخارجية، على نحو خاص، إذ يصرّ التيار المقرّب من رئيس الوزراء الهندي على صياغة سياسة شرق أوسطية تتعامل مع قضايا الإقليم من زاوية «الحرب على الإرهاب»، وتضع إسرائيل جنباً إلى جنب مع الهند، في «معركة مشتركة» ضدّ «المتشددين الإسلاميين».
وفي هذا الصدد، يرى الباحث المختص في العلاقات الهندية - الشرق أوسطية، كدرا بيثياغودا، أن «رؤية نيودلهي الاستراتيجية الشاملة، والتي يتبنّاها معظم القادة السياسيين، إلى جانب دوائر مؤسسة السياسة الخارجية، ومراكز الأبحاث الفاعلة في البلاد، إنّما تتطلّع إلى إقامة نظام عالمي متعدّد الأقطاب، تكون الهند فيه أحد أهمّ تلك الأقطاب»، موضحاً أن هذا الأمر «يتطلّب من الهند أن تتعامل مع الأزمة الإسرائيلية - الفلسطينية، باعتبارها قوّة عظمى، وليس من منطلق كونها قوّة إقليمية في جنوب آسيا، بما يفرض عليها النظر إلى الوضع من زاوية تأثيره على أهدافها على المدى الطويل، بما في ذلك حماية مصالحها الاقتصادية، والحفاظ على إمدادات الطاقة من دون انقطاع، فضلاً عن محاولة الحدّ من مخاطر الاضطرابات (السياسية والأمنية) الحاصلة في المنطقة، والتهديدات المستقبلية الناجمة عنها». ويلفت الباحث الهندي، ومؤلف كتاب «السياسة الخارجية الهندية والقيم الثقافية»، إلى أهمية أن تواصل الهند العمل على تعزيز مصالحها عبر إقامة علاقات متوازنة مع سائر الأطراف الإقليمية والدولية، محذّراً من أن انحيازها إلى إسرائيل بشكل قاطع، سيقوّض الأهداف المشار إليها على المدى القصير، وخصوصاً إذا ما توسّع الصراع واستقطب فاعلين جدداً إليه، كما سيسهم في الحدّ من قدرة نيودلهي على زيادة نفوذها الإقليمي على حساب القوى الدولية الأخرى، كالولايات المتحدة، على المدى الطويل. ويرى أنه «يتعيّن على صناع القرار السياسي في واشنطن أن يعيروا المزيد من اهتمامهم لهذه الرؤية (الهندية)، إذا كانوا لا يريدون أن يُفاجؤوا بموقف الهند، كما حدث في حالة أوكرانيا».
يرى البعض أن على الهند أن تتعامل مع الأزمة الإسرائيلية - الفلسطينية، باعتبارها «قوّة عظمى»


وفي حين يؤيّد بيثياغودا تبنّي سياسة خارجية أكثر جرأة، على طريق انتقال الهند إلى وضعية «القوّة العظمى»، فهو يؤكد أن هذا النهج الذي لا يخلو من مغامرة «لن يؤدي بالضرورة إلى توافقات مع واشنطن» على الدوام. «وإذا كان يصحّ القول إن انحسار النفوذ الأميركي في جنوب وشرق آسيا، من شأنه أن يسهّل ظهور مستوى من القوّة الصينية يمكن أن يهدّد الهند، إلا أن هذه المقولة لا تنطبق على واقع الشرق الأوسط، علماً أن مخاطر الاضطرار للتنافس مع بكين ذات الحضور الأكثر قوّة في تلك المنطقة، تقلّ عن الفوائد المترتّبة على التعاون مع الأخيرة، وخصوصاً لِما يعنيه هذا التعاون من تضاؤل فرص وقوع عمليات تغيير للأنظمة في الشرق الأوسط، التي دأب عليها الغرب خلال عصر الأحادية القطبية»، وفقاً للكاتب، في إشارة إلى معارضة بكين ونيودلهي مشاريع الغرب لإسقاط عدد من الأنظمة الشرق أوسطية، عبر القوّة العسكرية.
بدروها، تشير مجلة «فورين بوليسي» إلى أن انتهاج الهند مقاربة شديدة الانحياز إلى إسرائيل، على غرار البلدان الغربية، سوف يُعلي من شأن رهانات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وبالتالي يعزّز هيمنتها عليه، ويبطئ وتيرة التغيير فيه، المنشود هندياً. وفي المقابل، تعتبر المجلة أن تبنّي نيودلهي موقفاً محايداً، مستنداً إلى الشرعية الدولية، أو حتى اكتفاءها بموقف ملتبس في شأن الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، يخدم مصالحها بصورة أفضل، سواء لناحية تعزيز نفوذها (السياسي والاقتصادي)، أو لناحية اجتذابها دعماً ديبلوماسياً من قِبَل البلدان العربية والإسلامية حول القضايا المتعلّقة بإقليم كشمير المتنازع عليه مع باكستان. وتلفت إلى أن السياسة الخارجية الهندية حيال الحرب على غزة، تسير في هدي مواقف قوى دولية ثلاث متباينة، وهي: الولايات المتحدة التي توفّر غطاء ديبلوماسياً وعسكرياً لإسرائيل، في وجه ما تزعم الأولى أنها حركات «إسلاموية متطرفة» تصنّفها «إرهابية»، وتضعها نيودلهي ضمن خانة «التهديد الجهادي» نفسه الذي تواجهه، وروسيا والصين، اللتين وإنْ كانتا تتبنّيان مواقف مشابهة من ذلك «التهديد»، وتحافظان على علاقاتهما مع إسرائيل بشكل أو بآخر، لاعتبارات عدّة، إلا أنهما تميلان أكثر إلى تأييد الفلسطينيين، لجملة أسباب: أوّلها، السعي إلى «إضعاف الهيمنة الأميركية».
ومن هنا، تستبعد «فورين بوليسي» أن توقف الهند، بسبب حرب غزة، تعاونها العسكري مع إسرائيل، ولا سيما أنها تستورد نحو 46% من صادرات الأسلحة الإسرائيلية، وتستفيد من «اتفاقات أبراهام» كغطاء سياسي لتطبيع علاقاتها مع دولة الاحتلال، معتبرة أن «هذه اللحظة تتطلّب نهجاً مختلفاً في التعامل مع إسرائيل، وخاصة إذا اتّسع نطاق الصراع»، في ظلّ ما أحدثه من تحوّلات «مزلزلة» في النظام العالمي، من بينها التطوّر العسكري المتنامي للاعبين من مثل إيران وسوريا، وتنظيمات غير دولتيّة كـ«حزب الله» اللبناني، وتراجع القوّة الاستراتيجية لكلّ من الولايات المتحدة وإسرائيل، بالمقارنة مع خصومهما.



ناريندرا مودي... زمن التماهي مع الصهيونية
ثمّة من يعتقد بوجود دور كبير للتقاطعات السياسية والشخصية بين ناريندرا مودي وبنيامين نتنياهو، ولا سيما انتهاجهما سياسة متشدّدة في قضايا السياسة الخارجية والأمن على أسس «دينية» و«قومية»، وتبنّيهما فكرة «العدو الإسلامي المشترك» بهدف القفز فوق مشكلاتهما الداخلية، في رسم ملامح العلاقات الهندية - الإسرائيلية، والتي تجلّت متانتها في تغطية وسائل الإعلام الهندية، الرسمية وغير الرسمية، لحرب غزة، وفقاً للرواية الإسرائيلية. حتى أن بعض المراقبين الغربيين وضعوا موقف الهند من العدوان الإسرائيلي على غزة، في سياق «إستراتيجية جديدة في الشرق الأوسط»، تقوم على نبذ قيم «عدم الانحياز» من جهة، وتعزيز التقارب مع الولايات المتحدة من جهة أخرى، وهو ما أشارت إليه مجلة «ذي إيكونوميست»، موضحةً أن تركيز أنصار هذا التيار، الذي يلقى دعماً قوياً من حزب «جاناتا بهاراتيا» بزعامة مودي ويكتسب زخماً متزايداً، «ينصب على إعادة تقييم المصالح الهندية في الشرق الأوسط، على أسس واقعية، وانطلاقاً من اعتبارات (قومية ودينية) محلية».
ورغم أن تطور التعاون بين الهند وإسرائيل، بخاصة في شقه العسكري، يعود إلى أواخر التسعينيات، أي في أوج انشغال نيودلهي بحربها مع إسلام آباد، وقبيل انبثاق العلاقة «التحالفية» بينها وبين الولايات المتحدة، فقد شهدت العلاقات الهندية - الإسرائيلية نمواً مطّرداً مع تولي مودي السلطة عام 2014. فعلى غرار مفهوم «الدولة اليهودية» الذي يروج له قادة الكيان الإسرائيلي، ومتعلقاته من سياسات تهويد وتهجير، واستجارته أحياناً بروايات تاريخية مزعومة حول «الهوية العمرانية» أو «الدينية» لبعض المواقع التاريخية والأثرية، يحمل أنصار الحزب المذكور فكراً قومياً ذا نزعة عنصرية بحق أبناء الأقليات الأخرى في البلاد، من المسلمين والبوذيين وغيرهم، ويتبنون جعل الهند «دولة هندوسية خالصة».
ومن بين تطبيقات ذلك الفكر، حملة لهدم الآلاف من المساجد في عموم البلاد، على غرار هدم مسجد بابري الواقع في مدينة أيودهيا، شمال البلاد، والذي تسبب مناصرو «جاناتا بهاراتيا»، في عام 1992، في افتعال أحداث طائفية حوله نتج منها نحو 2000 قتيل، بدعوى إقامته على أنقاض معبد هندوسي، قبل أن يصدر حكم قضائي، بضغوط من الحكومة في عام 2019، ببناء المعبد مكان المسجد بعد هدمه، ليُفتتح الشهر الماضي بحضور مودي نفسه، في إطار حملة سياسية أطلقها الحزب الحاكم استعداداً للانتخابات العامة المرتقبة في شهر أيار المقبل. كذلك، تصاعد التحريض على هدم مسجد آخر في مدينة فاراناسي، الواقعة على بعد 200 كم من أيودهيا، ليحاط المسجد بأسوار عالية وعناصر من الشرطة، بالتزامن مع السماح بتوسعة البناء في معبد هندوسي محاذٍ له، وقضم مساحات من حرمه، مع العلم أن مودي كان قد تعهد بإعادته إلى «سابق عهده ومجده»، في إشارة إلى مزاعم إنشائه في مكان كان يضمّ معبداً هندوسياً. ويأتي هذا في مخالفة لقانون محلي صادر في عام 1991، يحظر الشروع في تغيير طبيعة معالم الأماكن المقدسة عما كانت عليه منذ عام 1947.