«خرجنا من غزّة ولكن غزّة لم تخرج منّا. رائحة الجثث لا تزال عالقة في أنفي طوال الوقت»؛ هكذا اختصر الجندي في احتياط جيش الاحتلال، والمقاتل في الهندسية الحربية، طال نيف (34 عاماً)، حالة الصدمة النفسية التي يعيشها الآلاف من جنود الاحتياط منذ قرار تسريحهم أخيراً. في يوم السابع من أكتوبر، امتثل نيف لـ«الأمر 8»، كمئات آلاف آخرين، وانتقل من الضفة الغربية المحتلة إلى مستوطنات «غلاف غزة»، ثم إلى شمال فلسطين على الحدود مع لبنان، لينضم بعد ذلك إلى القتال في داخل غزة، في حرب «لا تقارن مع سابقاتها حتى قياساً بـ(عدوان) تموز 2006». في مقابلة له مع صحيفة «يديعوت أحرونوت»، قال: «لقد تلقينا ضربة قاسية في غزة، فاثنان من رفاقي قُتلا وأربعة آخرون أصيبوا»، مضيفاً «(أنني) سأستغرق وقتاً طويلاً حتى أتمكن من شرح كيف تبدو الحياة بعد ما خضناه، ولكن الآن بالذّات، فإن تبادل الحديث مع الناس أمر صعب بالنسبة إليّ، وحالتي النفسية في صعود وهبوط. ليست لدي طاقة... وببساطة لدي الكثير من الحزن في داخلي». ووفقاً للصحيفة، فإنه ليس لدى الجندي، شأنه شأن آخرين، الكثير من الوقت لاستيعاب ما حصل، ولا حتى للعمل، أو لمواجهة «الظروف الصعبة» التي عاشها، فهو كغيره «في حالة استعداد ما»؛ إذ سُرّح وهو يعلم أنه سيُستدعى مجدداً.وتابع نيف، في شهادته: «لقد عايشنا هناك الكثير من الأشياء، بينها لُغم انفجر على بعد أمتار منا، وكذلك مضادات دروع قذفوها في اتجاهنا. رأينا مقاتلين (من حماس)، والكثير من الموت، والقصف. حتى الآن، لدّي الكثير من الأوهام، ولا أعرف ما إن كانت سترافقني طوال حياتي، فحتّى عندما أخرج من الحمام نظيفاً تماماً، فجأة أشمّ رائحة الجثث. كانت هناك رائحة منتشرة في جميع الأنحاء، وخصوصاً في الأيام الأولى داخل الغلاف وبعد ذلك في غزة. لقد حُفظت الرائحة في حواسي، وها أنا أحاول تطبيع ذلك ذاتياً والاعتياد عليه». وزاد: «في الأربعة أشهر الماضية، كان لدي إحساس بأنني سأموت، وهذا الشعور لا أتمكن من الانعتاق منه إطلاقاً»، مشيراً إلى أن هذه «ليست المرّة الأولى، فقد مررت بهذه التجربة أثناء (عدوان) الجرف الصامد، إذ بقيت لخمس سنوات من دون أن أفتح فمي، متجاهلاً ما أمرّ به، ولو عاد بي الزمن لتوجهت إلى أصحاب الاختصاص لأفهم كيف عليّ التعامل مع ذلك».
ووفقاً للمعالجة، والمحاضرة الموُجّهة في جمعية «من أجل الغد»، والخبيرة في الصدمات الحربية، طال بروش-سمحوني، فإن «(إسرائيل) في قلب حدث خطير. كل ما عرفناه عن الصدمة حتى اليوم، وكل ما تعاملنا معه مع خريجي حربي لبنان الأولى والثانية، والجرف الصامد، هو في كفة، والذي نتعامل معه هذه الأيام في كفة ثانية». وأوضحت بروش-سمحوني، التي عالجت الكثير من الجنود المصابين باضطراب ما بعد الصدمة أن «هناك 80-90% من المصابين يتمكنون من العودة إلى الحياة الطبيعية، و10-15% لا يتمكنون من فعل ذلك، ويصابون بهذا النوع من الاضطراب»، مضيفةً أن «هناك آخرين غير مشخصين يبقون مع الكثير من الجروح والذكريات والأمور غير البسيطة»، مستدركةً بأنه «هذه المرّة، هناك حدث متواصل وغير منتهي، لأن الحرب أساساً مستمرة، فيما الجنود الاحتياطيون موجودون حالياً في ما يُشبه الهُدنة، ومن المتوقع أن يُستعادوا مجدداً، ما يعني أن الحدث متدحرج، ولذلك، فإن التعامل معه مختلف كلياً».
كل جندي احتياط يعود إلى بيته يكتشف أنه لا أحد يعبأ بأمره على المستوى المعيشي والدخل والعمل


من جهته، قال الجندي أيال عوتسمان (37 عاماً)، الذي سُرّح من الخدمة قبل شهر، إنه «لم يكن هناك بيت أعود إليه»؛ فهو مستوطن من كيبوتس «تسئليم» الذي أخلي مستوطنوه في أعقاب الحرب. وأضاف: «البداية كانت صعبة جداً. فمن الصعب أن تكون في حرب ولا يوجد لديك منزل تعود إليه. وصلت في منتصف الليل إلى الفندق، بعد ثلاثة أسابيع لم أر فيها حماماً. تدخل إلى غرفة نظيفة مع سرير خاص لك، من دون أحد. مع ذلك، في تلك الليلة، نمت على الأرض؛ إذ لم أتمكن من استيعاب الفجوة الكبيرة. وفي اليوم الثاني استحممت، ونمت على الكنبة، وفي اليوم الثالث فقط، تمكّنت من النوم على السرير». ورغم أن عوتسمان كان سُرّح قبل عام، من الخدمة الاحتياطية، نتيجة الاعتراف به كمصاب باضطراب ما بعد الصدمة، بعد سنوات من إصابته في عدوان تموز 2006، إلّا أنه قرر هذه المرّة التجنّد من تلقاء نفسه، قبل أن يُسرّح مجدّداً. وحول وضعه الحالي، أشار إلى «هذا وضع صعب. عُدت إلى الفندق مع أبناء الكيبوتس المخليين. وأنا أساساً صاحب عمل مستقل، وعملي حالياً متوقف. هناك فجوة بين الحاجة إلى العودة إلى الروتين، وبين الواقع الذي لا يمكن فيه العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر. هناك أشياء لا تستطيع تجاهلها وكأنها لم تحدث». وتابع: «الروائح التصقت بي، روائح الموت والجثث، والحرائق، والغبار».
إلى ذلك، لفتت الصحيفة إلى أن «الوعي حول أهمية الحصول على علاج، إلى جانب الصدمات الكثيرة منذ 7 أكتوبر والحرب، عظّما بشكل كبير التوجهات والطلبات لتلقي المساعدة النفسية. فمثلاً منذ بدء الحرب، تشهد الطلبات المقدّمة إلى جمعية من أجل الغد، التي تُساعد المقاتلين المُسرّحين في التعامل مع ما عايشوه، ارتفاعاً بـ1000%. وحتى الآن، يوجد 7000 جندي احتياط في حالة انتظار للحصول على علاج كهذا». وبحسب الصحيفة، فإن الجمعية المذكورة تحصل على مساعدات وتبرعات جماهيرية، وجزء من ميزانيتها من وزارة الأمن، ولكن «النقص الحاصل في الميزانية لا يُمكّنها حالياً من إعطاء الاستجابة الكافية وتقديم العلاجات لجميع مريديها».
على أن الصدمات النفسية لا تعدّ المُشكلة الحصرية بالنسبة إلى جنود الاحتياط؛ إذ وفقاً لما قاله الجنرال في الاحتياط، ومفوّض شكاوى الجيش السابق، يتسحاك بريك، في مقابلة مع إذاعة «104.5»، فإن «الحكومة لم تعقد جلسة نقاش واحدة حول اليوم التالي، وما سينتظرنا هُنا (في إسرائيل) على المستوى الاقتصادي، والمجتمعي والأمني. الاحتياط يعودون من القتال، بينما جزء من رفاقهم يقتلون، وهم يشعرون أنه لا توجد حكومة تعبأ بأمرهم». وأضاف «كل جندي احتياط يعود إلى بيته يكتشف أنه لا أحد يعبأ بأمره على المستوى المعيشي والدخل والعمل، وعندئذ، سيقول بعد كل ما حاربت لأجله، فقدت عملي وكل شي... ثمة حكومة غدرت بي». وتساءل: «كيف سيعود هؤلاء الاحتياطيون بعد كل ذلك إلى القتال مجدداً؟».