لم يبق في شمال غزة منزل أو منشأة لم تصبهما قذائف العدوّ. بلدات وأحياء كبيرة دمرت عن بكرة أبيها. وفي الطرقات التي تقود الى المربعات السكنية، تنتشر الذخائر غير المنفجرة، وباتت أحياء كثيرة وكبيرة جداً خالية من الناس. فقط يمكن ملاحظة الكلاب التي تتنقل بين المنازل تبحث في بقايا جيف، بينما لا يمكن لمركبة أن تسير من دون مواكبة مسيّرات الاحتلال. والناس الذين صمدوا في الشمال، يتكدسون بعضهم فوق بعض في مدارس ومؤسسات مخلّعة الأبواب والشبابيك، تغرقها المياه وتلفّها الرياح صبح مساء.في وسط القطاع، ثمة شريط يمكن لعابر شارع صلاح الدين فقط أن يرصد الدمار فيه. لا يمكن أن يرى المرء يساراً أو يميناً، سوى الركام وقد تجمّع بعضه فوق بعض على شكل مستودع خردة. ومن يقدر على الاقتراب من الجهات الشرقية، يلحظ عمليات التجريف المتواصلة لكل المباني المرتفعة الى أكثر من خمسة أمتار. وبعض من أُتيح لهم العودة الى أحيائهم، ما كان بمقدورهم التعرّف على معالم المكان. صار في غزة شوارع بعرض 25 متراً. لا اسفلت عليها، بل رمال صارت وحلاً مجبولاً ببقايا المنازل وأغراضها، وتحتها دفنت أشياء كثيرة، بينها بقايا من قضى تحت الأنقاض ولا يعرف أحد مصيره أو حتى اسمه.
في الجنوب، قامت غابة من اللحوم البشرية، وقد حشرت في مربعات عند الحدود مع مصر، أو باتجاه البحر غرباً. لكنّ الدمار الكبير لا يتوقف مع استمرار العدوان، وكل الحضور الإنساني من الخارج لا يعدو كونه شاهداً على المجزرة الكبرى، ولم يعد بمقدور الناس تمييز مخيّم عن بلدة أو مدينة. حارات بأكملها أُزيحت عن الخريطة، والسكان الذين أمكنهم البقاء في منازلهم صاروا أقلية، لكنهم معروفون بالعناوين والأسماء، لكثرة النازحين بين جنبات منازلهم. فيما العيون شاخصة صوب الجنوب، حيث يستعد العدوّ لان يختم حفلة جنونه النارية، بباقة أخيرة من المجازر المهولة التي لا يمكن تفاديها متى قرر الهجوم على رفح، سواء فعل ذلك قصفاً أو غارات أو عبر دباباته. والأكثر مرارةً، هو مشهد الجنود المصريين عند الجانب الآخر من الحدود، الذين يقفون شاخصين من دون حراك، وقد منعتهم سلطات القاهرة من الاقتراب من السياج والاحتكاك بأبناء القطاع. لا يريد حاكم مصر أن يسمع الجنود صرخات الاستغاثة، لأنه لا يريد أن يكون بين الجنود من يتمثّل بالشهيد محمد صلاح، ذلك المقاوم الذي لم يتحمّل مشاهد الموت، فهجم على جنود الاحتلال، فيما تنشط مافيا الاتجار بالبشر ومآسيهم بإشراف نظام شديد القساوة، فيه من يقف الآن في غرفة مكتبه منتظراً ممثلي المقاومة ليصرخ بهم: ما خلاص بقا!
وسط هذا الطوفان من الدماء والدموع، يصمد مقاومون، يحتالون على الجغرافيا وهم يختارون بعناية أهدافهم. لا ينتظرون الجنود حتى يقتربوا، بل يلحقون بهم وهم يهربون من مربعات استقبلتهم بالرعب والنار، وما صار مطلوباً من المقاومة، مقدور عليه ولوقت طويل، وهو أمر متاح في جنوب القطاع وشماله وفي وسطه أيضاً. لكن، للمقاومة حسابات من نوع مختلف الآن.
حسابات المقاومة الإضافية توازي أهمية الصمود والقتال. لقد أفشلت خطةَ العدوّ ومنعته من تحقيق أهدافه. لكنها الآن تستعد للمرحلة الجديدة من المواجهة، حيث المعركة الكبرى من أجل رفع الحصار عن القطاع، وإطلاق أكبر عملية إغاثة عرفها العرب منذ عقود طويلة. وهي عملية تحتاج أولاً، وقبل كل شيء، الى إيقاف الحرب. وهدف المقاومة هنا، الدفع باتجاه تحقيق هدف وقف الحرب. صحيح أن أحداً لن يقبل بحلٍّ على شكل استسلام. وهو أمر لن يحصل عليه العدوّ، حتى لو قتل ثلاثين ألفاً إضافيين من أبناء القطاع. لكنه هدف، يتطلّب حكمة وشجاعة وتبصّراً وهو حال قيادة المقاومة الآن.
بهذا المعنى، يجب أن يكون واضحاً للجميع أن «حماس»، هي قائدة المعركة اليوم. وكل فصائل المقاومة في فلسطين، وقوى محور المقاومة خارجها، تتصرّف على أن «حماس» هي من يتولّى القيادة الآن، والكل يعرف أن «حماس» لا تهرب من المسؤولية، وهي تحتاج إلى أن يكون الجميع الى جانبها في هذه اللحظة الخاصة. وهي لا تريد فتح جبهات غير جبهة المواجهة مع الاحتلال، وهو ما يفرض عليها برنامج عمل، لا يجوز لأحد من خارج أبناء غزة أن يتشاطر عليها.
ابتداءً من هذه اللحظة، علينا الوقوف خلف «حماس»، وكل ما يمكن أن نقوله لها أن تبقى على نباهتها، وأن تستخدم عيون السمك وهي تسير بين الألغام، وسط عالم من الوحوش المنتشرين في كل الأرض، بما في ذلك الأرض العربية التي خلت إلا من قلّة شجعان في اليمن وسوريا والعراق ولبنان، فيما يغرق الآخرون في صمت المتآمر، أو عجز المتخاذل. وكل ما يصدر عن «حماس» من مواقف أو خطوات في سياق المفاوضات الأكثر صعوبة التي تجري الآن، يجب النظر إليه بعيون أبناء غزة، وأبناء غزة فقط!