يحاول قادة العدو وخبراؤه إسكات أصوات المستوطنين التي تتعالى اعتراضاً على فشل الجيش حتى الآن في توفير الشعور بالأمان لعودتهم. لذلك، تحاول دوائر التقدير والقرار احتواء ضغوطهم عبر تركيز الحديث على جانب من المشهد العملياتي يتمحور حول إنجازات تكتيكية في المعركة الدائرة مع حزب الله، وهو أمر غير مفاجئ بلحاظ تطوّر قدرات جيش العدو. بالموازاة يقرّ هؤلاء القادة والخبراء أنفسهم بالفشل في تحقيق أي إنجاز استراتيجي. فلا الجيش نجح حتى الآن في إسقاط قواعد الاشتباك التي فرضها حزب الله منذ الثامن من تشرين الأول، ولا تمكّن من فرض معادلة ردع تثنيه عن مواصلة هذا الخيار الاستراتيجي - العملياتي، والأهم أن العدو عجز عن فك الارتباط بين جبهتَي لبنان وغزة.اللافت في القراءات الإسرائيلية أن الرأي العام والخبراء يقرون، أيضاً، بأن حزب الله «حقّق إنجازاً استراتيجياً» تمثّل بـ«إخلاء عشرات الآلاف من الإسرائيليين من منازلهم»، وفق رئيس الاستخبارات العسكرية السابق (أمان) اللواء تامير هايمن. ويتقاطع مع هذا التوصيف عدد من الخبراء والمسؤولين الذين يتفقون على مجموعة مفاهيم، منها: «لا يوجد ردع في الشمال؛ سياسة الاحتواء فشلت؛ ولا يمكن الاستمرار في هذا البينغ بونغ ووجود حزام أمني في أراضينا وتحوّل سكان الجليل إلى حقل رماية لحزب الله».
فرض هذا الواقع على قيادة العدو رفع منسوب الضغوط، ولو من موقع الردود على ضربات حزب الله، عبر توسيع مدروس ومضبوط للنطاق الجغرافي للمعركة. ويعود ذلك، بشكل رئيسي، إلى فشل استراتيجية «الردع الفعّال» التي أعلنها نتنياهو كعنوان للسياسة العملياتية لجيش العدو. لكنه عكس، من جهة أخرى، مفاعيل ضربات حزب الله على المستوييْن الأمني والسياسي، وتداعياتها على صورة الجيش في نظر المستوطنين.
في المقابل، ردّ حزب الله على مساعي العدو بضربات مدروسة اعتبرتها قيادة العدو خارج القواعد الحاكمة على الميدان حتى الآن. تمثّل ذلك بضرب أهداف خارج النطاق الجغرافي للمعركة المستمرة منذ حوالي أربعة أشهر، وصف العدو بعضها بالحساسة، إضافة إلى خصوصيات عسكرية اتّسمت بها أهداف أخرى. كما شكّل استخدام حزب الله وسائل قتالية جديدة نوعاً من الارتقاء انطوى على رسائل، أكثر من يعي أبعادها العملياتية قادة الجيش، ومن ورائهم المستوى السياسي.
هذا الواقع المتداخل والمعقَّد على المستوييْن السياسي والميداني، وضع تل أبيب أمام تحدٍّ مفصلي، تمّ التعبير عنه في الساحة الإسرائيلية على أنه «صراع إرادات»، تسعى فيه إسرائيل إلى «الفصل بين حماس والمحور الشيعي وانتزاع تهديد (قدرات) حزب الله في التوغّل إلى الأراضي الإسرائيلية»،كما عبَّر هايمن.
مع ذلك، يكشف الحديث عن «صراع الإرادات»، بدلاً من حرب إسرائيلية لاجتثاث قدرات حزب الله، عن مفاعيل قوة الردع الاستراتيجي للحزب، والتي من دونها ما كان استطاع أن يخوض معركة مؤطّرة جغرافياً ومكبوحة على مستوى النيران، ومضبوطة إلى حد عدم الدفع نحو التدحرج إلى حرب واسعة، على خلاف السياسة العدوانية التي يتّبعها في قطاع غزة. كذلك تجلّت قوة ردع حزب الله في تحديد قادة العدو معايير تكتيكية لأي صيغة مستقبلية، على حساب الطموحات الاستراتيجية، تعبيراً عن إدراكهم لحجم التحوّلات التي استجدّت على معادلات القوة بين الحزب وجيش العدو. فبعدما كان العدو يحمي مستوطناته الشمالية من خلال احتلال «حزام أمني» في الأراضي اللبنانية، بات يقيم «حزاماً أمنياً» داخل «أراضيه». واللافت أن قادته وضعوا ذلك في خانة الإنجازات كونه سلب حزب الله المزيد من الأهداف، وإن عبر تهجير المستوطنين واختباء الجنود والاحتماء في التحصينات!
استخدام حزب الله وسائلَ قتالية جديدة انطوى على رسائل يعي جيش العدو والمستوى السياسي أبعادها


وبعدما كان الخطاب السياسي الرسمي، الأميركي والإسرائيلي، يركّز على المطالبة بنزع سلاح حزب الله والتهديد بتدميره إن لم يتحقق ذلك، أصبح الهم الأول في تل أبيب توفير الشعور بالأمن للمستوطنين، عبر إبعاد قوة حزب الله الهجومية، «قوة الرضوان»، عن الحدود، في إقرار صريح بفشل استراتيجية الردع والدفاع. والأهم، أن المطالبة بإبعاد «قوة الرضوان» تعكس أيضاً عدم ثقة المستوطنين بجيشهم وقدراته في مواجهة حزب الله.
اللافت أن تغليب السقف التكتيكي في المطالب أصبح مهيمناً على الخطاب الإسرائيلي الرسمي، وإن على حساب تكريس وارتفاع المخاطر الاستراتيجية. فرغم تأكيد هايمن على المطالبة بإبعاد «قوة الرضوان»، إلا أنه أقرّ في الوقت نفسه بأنه «ليس هناك وهم بأن تهديد حزب الله بشن هجوم واسع النطاق (برياً) سيختفي»، مضيفاً أن إسرائيل «ستبقى مع تهديد عشرات آلاف الصواريخ لحزب الله على الجبهة الداخلية». وتقاطع بذلك مع تأكيد قائد الفيلق الشمالي السابق اللواء آيال بن رؤوبين، أن «حزب الله لن يختفي من حياتنا»، في إشارة إلى ضرورة خفض سقف التوقّعات لأسباب استراتيجية، وأيضاً داخلية تتصل بمخاطبة الجمهور الإسرائيلي.
رغم حجم التعقيدات التي تتّسم بها جبهة لبنان، وفشل كل المحاولات السياسية والميدانية حتى الآن، إلا أن التقدير الذي لا يزال مهيمناً في كيان العدو، كما عبَّر اللواء هايمن المقرّب جداً من دوائر التقدير والقرار، هو أن «حرباً شاملة في الشمال ليست حتمية»، من دون أن يستبعد إمكانية التدهور إليها. إلا أن النظرة التشاؤمية إلى المستقبل كمنت في تأكيده على عودة «الاستيطان على طول الحدود مرة أخرى جزءاً من القصة الصهيونية الطلائعية»، وهو تعبير ينطوي على مضامين ثقافية تاريخية تشكل إقراراً بالعودة إلى الأيام الأولى التي كان يلعب فيها الاستيطان الحدودي دوراً رئيسياً في الدفاع عن الأمن والوجود. لكنّ المختلف هذه المرة، كما يتم التعبير عنه في جيش العدو، هو «تغيّر التهديد وتغيّر العدو». وبتعبير أوسع دلالة، فإن ذلك مقرون بتغيّر جوهري في البيئتين الإقليمية والعملياتية يساهم في تسارع انحدار مكانة إسرائيل الاستراتيجية والردعية.