مع وصول حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة إلى «مفترق طرق مصيري»، شرع صنّاع القرار في تل أبيب في صياغة نماذج «خطّة استراتيجية» لإنهاء الحرب. وفي هذا السياق، تُتداول في «مجلس الحرب» المُصغّر خطّتان على الأقلّ من شأنهما «تحقيق غالبية الأهداف وفق جدول زمني مقبول لإسرائيل، والأميركيين وحلفائهما»، وفق ما يجري تسويقه. ووضع الخطّة الأولى رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، ومبعوثه الوزير رون ديرمر، أمّا الثانية فصاغها وزيرا «الكابينت»، بيني غانتس، وغادي آيزنكوت. وبحسب المعلّق العسكري لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، رون بن يشاي، فإنه لا توجد فروقات جوهرية بين كلتيهما، «باستثناء الجداول الزمنية وحقيقة أن غانتس وآيزنكوت مستعدّان لكشف الخطوط العريضة، والتداول فيها في مجلس الحرب»، خلافاً لنتنياهو «الذي يخشى ردّ فعل شركائه في الائتلاف، حول بنود عدّة في مقترحه»، علماً أنه في الوقت ذاته «يدير سرّاً محادثات حول خطّته مع مسؤولين رفيعين في الإدارة الأميركية، وغالبيتها بواسطة ديرمر. وقد يكشف أوراقه - حتى للأميركيين - في الدقيقة الـ99».أما الخطّة التي يقترحها غانتس وآيزنكوت، فمن شأنها، وفق ما يزعمان، أن تحقّق «النصر» على مراحل، وهي تقترح هُدناً طويلة لإنجاز صفقة التبادل. وعلى رغم أنها تمنح الأولوية للصفقة، إلا أنها لا تفرّط بهدف تفكيك قدرات «حماس» العسكرية والسلطوية، وإعادة الأمن إلى سكان الجليل. ولذلك، فإنهما «يقولان «لا» صريحة لمطلب التعهّد بإنهاء كلّي للحرب. ولا يوافقان على صفقة بأيّ ثمن». كما أن أحد أهداف مقترحهما يتمثل في «تعزيز الشرعية والدعم العسكري والسياسي الذي تمنحه الإدارة الأميركية لإسرائيل»، خصوصاً أن الرئيس جو بايدن الذي يخوض حملة انتخابية رئاسية، «مُعرّض لتهديد سياسي من قِبَل الجناح التقدمي في حزبه، والناخبين المسلمين في ولاية رئيسية واحدة على الأقل، بسبب دعمه لإسرائيل». ويقول بن يشاي إن الإعلان الإسرائيلي عن هدنة طويلة من أجل تنفيذ الصفقة «سيخفّف بشكل كبير من الضغط الداخلي والخارجي على بايدن»، كونه سيُمكنه من الادّعاء أنه «نجح في وقف القتال، ولو مؤقّتاً»، على أن يحدث هذا بحلول حزيران المقبل، أي قبل خمسة أشهر من موعد الاستحقاق الانتخابي.
فضلاً عما تقدّم، تتعامل الخطّة مع سيناريو عدم خروجها إلى حيّز التنفيذ، كأن تُصرّ «حماس» على مطالبها، أو يحدث شيء غير متوقّع في القتال، ما يعني تجديد الحرب في كل الساحات، كما حدث بعد الصفقة السابقة. لذلك، تقترح أنه «خلال فترة التهدئة الطويلة، يستعدّ الجيش الإسرائيلي بشكل مكثّف لاستئناف القتال، من خلال تدريب قواته وإنعاشها، وخاصة وحدات الاحتياط، وتجديد مخزون الأسلحة، وتحديث أساليب وخطط القتال في غزة و/أو الساحة الشمالية (إذا لم يتم التوصّل إلى تسوية دبلوماسية تُبعد حزب الله عن الحدود)». ولكي تصبح الخطة نافذة، يتعيّن على إسرائيل، وفقاً لغانتس وآيزنكوت، اتّخاذ الخطوات الآتية: أولاً، «إظهار أقصى درجات المرونة والإبداع في مفاوضات مكثّفة حول تفاصيل ومراحل صفقة التبادل، من دون إلغاء ضرورة اجتياح رفح عسكرياً. لكن بالنسبة إليهما، يمكن إنجاز ذلك بعد تنفيذ الصفقة». ثانياً، «نقل المساعدات المدنية إلى قطاع غزة مباشرة من إسرائيل عبر منظمات دولية غير الأونروا، بحيث لا تتمكّن حماس من السيطرة عليها». ثالثاً، «البدء في خطوات إقامة الحكم المدني في القطاع حتى في ظلّ بقاء يحيى السنوار وحماس عموماً في القطاع، وحتى لو كان معروفاً أن قيادة الحركة لا تزال في رفح مع المختطفين». رابعاً، «تنجز إسرائيل المفاوضات مع مصر في شأن كيفية منع تسلّل النازحين الفلسطينيين إلى أراضي سيناء عندما يجتاح الجيش الإسرائيلي رفح برّاً، وفي شأن منع تهريب الأسلحة تحت محور فيلادلفيا عن طريق حاجز فوق الأرض (قائم أساساً في معظمه). وعائق آخر تحت الأرض»، علماً أن هذه المفاوضات دائرة بالفعل من خلال وفود إسرائيلية بقيادة رئيس «الشاباك» رونين بار، ورئيس «أمان» أهارون حاليفا، ورئيس المخابرات العامة المصرية، عباس كامل.
وفي مقابل ذلك، يقترح رئيسا الأركان السابقان البدء بتنفيذ المقترح السياسي الأميركي لـ«اليوم التالي»، وهو ما يتضمّن: أولاً، تطبيع العلاقات مع السعودية بعد أن تعطي إسرائيل التزاماً معيّناً (ولو ضبابيّاً) باستعدادها للدخول في محادثات سياسية، وهو ما سيمكّن، بحسب الخطّة، من عقد التحالف الأمني بين واشنطن والرياض، ويمنح بايدن إنجازاً تاريخياً يحتاج إليه في معركته على ولاية رئاسية ثانية. ثانياً، يُوقع بالتوازي على اتفاق لتمويل إعادة إعمار غزة. ثالثاً، متابعة إقامة المنطقة الأمنية العازلة في القطاع، بمساحة 1000-1200 متر على طول الحدود، والتي ستكون تحت سيطرة عسكرية إسرائيلية. رابعاً، عقد مفاوضات للتوصّل إلى تسوية دبلوماسية تبعد «حزب الله» 8 إلى 10 كيلومترات عن الحدود، وتسمح بعودة مستوطني الشمال المخليين. خامساً، تحتفظ إسرائيل بـ«حقّ العمل الأمني» داخل غزة في أيّ وقت.
على المقلب الآخر، ووفقاً لبن يشاي، فإن نتنياهو «معنيٌّ بالتوصّل إلى اتفاق لإطلاق سراح جميع المختطفين، إن أمكن ذلك قبل شهر رمضان. غير أن هذا لا يبدو ممكناً حالياً ربطاً بالمطالب التي وضعتها حماس، ولا تبدي رغبةً في التنازل عنها، وتعدّها إسرائيل غير مقبولة». ويأمل نتنياهو ووزير أمنه، يوآف غالانت، في تحقيق «هزيمة عسكرية مطلقة على حماس والقضاء على السنوار وقيادة الحركة في غزة من خلال السيطرة على رفح قبل شهر رمضان أو في خلاله». كما يعتقدان أن اجتياح المعقل الأخير «سيليّن قيادة الحركة ويسمح بصفقة معقولة لإطلاق سراح المختطفين، وسيمنح إسرائيل موقع قوّة في المداولات في شأن اليوم التالي، بما في ذلك حول محور فيلادلفيا، والحدود الشماليّة (مع لبنان)».
يراهن نتنياهو على الحسم العسكري الذي يمنحه تحقيق كل أهداف الحرب من دون أن يضطر لـ«التنازل»


وبناءً على ما سبق، يحثّ نتنياهو، رئيس الأركان، هرتسي هليفي، على «استكمال تفكيك حماس في خانيونس والبدء في السيطرة على رفح»، فيما يؤكد هليفي أنه بحاجة إلى مزيد من الوقت لإنجاز ذلك؛ حيث يتطلب اجتياح رفح خطّة لإجلاء النازحين الذين فاق عددهم المليون، إضافةً إلى التوصّل إلى اتفاق مع مصر في هذا الشأن. كما يحاول نتنياهو كسب الوقت؛ ولذا، «تأخّر في تقديم إجابة على ردّ حماس (في شأن الصفقة)»، وهو لا يعرض خطّته على «الكابينت» الموسّع والمُصغّر، بسبب خوفه من ردّ فعل الوزيرَين بتسلئيل سموتريتش، وإيتمار بن غفير؛ إذ إن المطالب الأميركية تقضي بالتوصّل إلى اتفاق تطبيع مع السعودية، ما سيسمح بإنشاء «جبهة إقليمية مقابلة للمحور الراديكالي الذي تقوده إيران، فيما على إسرائيل إعلان استعدادها للموافقة على البدء في مفاوضات لإقامة دولة فلسطينية، وهو ما يعارضه الوزيران».
وفي هذا الإطار، يرجّح بن يشاي أنه «لن يكون أمام نتنياهو خيار آخر سوى طرح خطّته عندما تحين اللحظة لذلك». ويتوقع أن يبدأ بدفع خطّته قدماً في الفترة الممتدة بين شهرَي نيسان وأيار المقبلَين؛ إذ حتى ذلك الحين ستنتهي المرحلة الثالثة من الحرب، وتنتقل إسرائيل إلى المرحلة الرابعة.