أحسدك يا صديقي لأنك لن ترى الفصل الأخير من المسرحية التي يقوم ببطولتها ذوو القُربى، ولن ترى المشهد الأخير منها، ولا الصورة الأخيرة. غداً تكتمل فصول المسرحية، ويتسلّم العرب جوائز الترضية، واحدة لروح النكتة، وواحدة لحسن الدراية، وواحدة للصمود على حدود الحصار. ووحدها فلسطين ترتدي ثوب الانتصار الأحمر، وينبض قلبها بشرايين الشهداء.
أحسدك يا صديقي لأنك لن ترى الطعنات الأخيرة تحفر في ظهر فلسطين معالم المجزرة بتوقيع معظم العرب، ولأنك لن ترى ديوك الأنظمة تصيح على مزابلها لحظة إعلان انكسار العدو.
كم خفنا على فلسطين من عمليات البيع والشراء، ومن سوق العرض والطلب، لأننا كنا نعلم، وأنت واحد منا، أن كرم العرب في سوق العرض والطلب، أقوى من شعور الانتماء إلى الوطن والأمة.
كم كنت ترى الأحلام واقعاً، فتسعى إليها بإرادة الواثق من القبض على مفاتيحها. كم كنت رجلاً بعدة رجال، وكم كنت شاهداً على الصور والمشاهد المتنوعة، من مشهد البندقية إلى مشهد القلم والريشة، إلى مشهد الشاشة والتلفزة والمسرح. كم كنت شاهداً على المجزرة، فأنت من شهد في روايته «لست حيواناً» على صور مجازر صبرا وشاتيلا وفلسطين ومخيم اليرموك.
أنت لا تدري أننا حين تواعدنا أن نلتقي في اليوم الثاني في مكتب صديقتنا ورفيقتنا عفراء، ولم تأتِ، كم خفنا عليك يومها، لأنه ما تأخر حضورك للقائنا منذ تعارفنا. خفنا، وكأن حدسنا أنبأنا بالخطر، فأخبرتني عفراء بعد يومين أن وليد ليس بخير.
ما التقيتك مرة، إلّا وأخبرتني عن جديد في الموسيقى، في الرواية، في الشعر، في السياسة. ما التقيتك مرة إلا وكنت مستعجلاً تريد إنجازات، تريد تقصير المسافة بين النزوح والعودة. كم كنت متأكداً من حتمية النصر والعودة.
كانت تضيق بك دمشق المدينة التي انسكبتَ فيها كانسكاب الروح في الجسد، فكنت تعشق تفاصيلها الصغيرة، ترسم صورها لوحات إبداعية في خزّان ذاكرتك، فلا تفارقك أبداً، وفيها رسمت طريق العودة إلى فلسطين. كانت تضيق بك دمشق وتتنفس الصعداء حين تتذكر أن دمشق والقدس جسد واحد بروحين. لقد رسمت جسر العبور من دمشق إلى القدس، ورصفته بدموع الأسى قطعة قطعة، وخبّأته في حنايا قلبك.
لم يثنِك الإبداع عن النضال، ولا النضال عن الإبداع، فكانا بالنسبة إليك ورقة بوجهين، تكتب عليهما خربشات إلهامك، وتلوّنهما بألوان الزهر الفلسطيني.
أحسدك يا صديقي لأنك لن ترى الرقص العربي الأخير على مسرح المجزرة. ولن ترى طبّال الليل في شوارع المدن العربية، يُطبّل على كروش العرب، ويدعوهم كل ليلة إلى تناول الإفطار عن أرواح من استشهدوا ومن سيستشهدون. لكنني كم كنت أتمنى أن ترى الليلة الأخيرة، أن ترى الطبّال وقد انكسرت عصاه، والكروش وقد انفجرت بأرزاقها.
كم كنت مشاكساً في زمن الاصطفافات، لا مقامات في حضرتك سوى لأبناء القضية، وليس مهماً من كانوا ومن أين أتوا.
أيها المشتاق إلى زيتون فلسطين وليمونها، إلى حاراتها القديمة، إلى رفوف الحساسين الغاطة على سنابل قمح مرج بن عامرها، إلى «زريف الطول» الذي اخترته عنوان روايتك الأخيرة. أيها المشتاق إلى التدثّر بتراب فلسطين، إنّ ما يشفي غليلك أن لا فرق بين تراب الشام وتراب فلسطين، فهما من الطينة نفسها التي صنعها القدر لهذه البلاد.
كتبت قصيدتك الأخيرة بأقلام أوجاعك، فكانت الشهادة لك بأنك لا تكتب بمداد المحابر، فأنت تكتب بمداد شرايين القلب.
لم تكن في فلسطين، ولكن فلسطين كانت معك في كل الأماكن وفي كل الظروف وحتى آخر حرف كتبته وآخر كلمة نطقتها.
أوقفت صور المجازر، ونداءات الاستغاثة من الأطفال والنساء نبض قلبك، فاخترت الرحيل لأنه قمة الوجع. أوجعتك خيانة من أسميتهم عضاريط الزمن الحالي، فاخترت الرحيل كي لا تشاهد عجوزاً جديدة تستغيث، ولا ترى معتصماً يلبي النداء.
يتعجب صديقي كيف لم نمت جميعاً، نحن الذين امتلأنا حباً، وسكنتنا فلسطين بناسها وترابها، كيف لم نمت، ونحن نرى فحول العرب يسوقونها إلى المقصلة من دون أن ترتجف لهم شعرة.
يا وليد يا صديقي، كنا نتشارك الموت اليومي والقيامة في اليوم الثاني، واختار القدر لك الراحة، واختار لنا البقاء في دوامة الموت والحياة. نحن نحيا على متن سفينة الانتصار الذي لا مفرّ منه، وهذه هي شعرة الوصل بين موتنا وحياتنا.
كم كنت مشرقاً، وكم ستبقى قبساً لكل من عرفك، وعرف أنك وليد الحق والخير والجمال، كاره العبودية، رحيم بالضعفاء، فأنت وليد عبد الرحيم.