برز، في الآونة الأخيرة، اسم الطبيب الفرنسي، رافييل بيتي، الذي أمضى، برفقة بعثة من الأطباء، 15 يوماً في قطاع غزة - من 22 كانون الثاني إلى 6 شباط -، وعاد بعدها ليوصّف، عبر وسائل إعلام فرنسية عدّة، المجازر المرتكَبة بحق المدنيين في القطاع، والأوضاع الإنسانية «الكارثية» التي تحيط بهم. وفي مقابلة أجراها عبر إذاعة ««Sud Radio»، ورغم أنّ بيتي ومحاوره حاولا التأكيد أنّ الهدف من المقابلة ليس «دعم طرف ضدّ الآخر»، مظهرَين حرصاً على توصيف عملية «طوفان الأقصى» بـ«مجزرة سبعة أكتوبر»، ومحاولَين تبرير الإبادة الإسرائيلية بعبارات من مثل «العنف يجر العنف»، فإنّ الطبيب الفرنسي أكّد، لدى سؤاله عمّا إذا كانت القوات الإسرائيلية تدمر غزة من دون تدمير «حماس»، أنّ إسرائيل «خسرت الحرب منذ أربعة أشهر» بالفعل، قائلاً: «في رأيي الشخصي، إسرائيل خسرت الحرب منذ أربعة أشهر، لأنّ (حماس) لا تزال موجودة، وهي تستمر في إطلاق الصواريخ». وكان الطبيب الفرنسي - وهو طبيب عسكري سابق أيضاً، عمل في سوريا وأوكرانيا وتشاد - قد دخل القطاع بعد «عناء» طويل، في وقت لا تسمح فيه قوات الاحتلال لأي «منظمة غير حكومية» بالدخول إلى هناك، وهو ما دفع، طبقاً لبيتي، 15 من أهم المنظمات غير الحكومية في العالم إلى التكتل في مجموعة، في سابقة من نوعها، «للاعتراض على عدم السماح لها بتأدية عملها». وأخيراً، وبعد الحصول على تصاريح من إسرائيل ومصر، دخل بيتي مع عدد من الأطباء في إطار «بعثة طبية إنسانية»، عملت في «المستشفى الأوروبي» الواقع في خان يونس جنوبي القطاع. وفور دخولهم، ترك ترحيب سكان غزة «الحار» وشكرهم للطاقم الذي جاء لمساعدتهم «والابتسامة التي لا تزال حاضرة على وجوههم، رغم الظروف الكارثية التي يعانون منها»، انطباعاً كبيراً لدى بيتي وسائر أطباء البعثة. ورغم قساوة الظروف، فقد التمس الطبيب شعوراً ينتاب سكان مختلف مناطق القطاع، بأنّ «حماس» تدافع عنهم، مشيراً إلى أنّ الهجوم الإسرائيلي جعل المواقف المؤيدة للمقاومة «أكثر تطرفاً»، إذ يقول الناس إنّ «مقاتلي (حماس)، هم هناك، في مكان ما في القطاع، يدافعون عن كرامتهم»، فيما «لا يتحدث المواطنون أبداً عن الأنفاق». كما رفض الطبيب ذريعة أنّ «حماس» تستخدم المدنيين كـ«دروع بشرية»، لافتاً، في المقابل، إلى أنّ إسرائيل هي من تشرّدهم وتؤدي إلى نزوحهم.
التمس الطبيب شعوراً، ينتاب سكان مختلف مناطق غزة، بأنّ «حماس» تدافع عنهم


«المستشفى الأوروبي»
وفي «المستشفى الأوروبي»، الذي يتّسع لـ400 سرير فقط، يقبع نحو 900 مريض، ومجموعات من الناس تجمّعت في أروقته، وباتت تشكّل، مع النازحين من شمال قطاع غزة والذين سكنوا في محيطه، ما هو أشبه بـ«قرية صغيرة» يبلغ عدد سكانها ما بين 25 و30 ألف فلسطيني. ويتحدث الطبيب الفرنسي عن «فوضى» عارمة داخل المستشفى وخارجها، إذ كان يتعين على الأطباء متابعة المرضى من جهة، والتعامل مع أعداد جرحى القصف والقنص (الذي كان غالباً يستهدف الرأس)، والذين كانوا يتدفقون إليهم من جهة أخرى، ما دفع بهم إلى «بتر» أعضاء بعض المرضى بدلاً من معالجتها، وترك أولئك الذين يعانون من جروح «خطيرة» يموتون، بسبب امتلاء غرف الإنعاش وعدم توافر «المورفين»، في مظاهر لم يشهد الطبيب مثيلاً لها «في أي مكان آخر في العالم»، على حدّ تعبيره.

المساكن العشوائية
كذلك تطرّق بيتي، الذي شبّه في مقابلته الأوضاع في غزة بـ«غيتو وارسو» أو محرقة اليهود، إلى أوضاع النازحين في القطاع بشكل عام، في وقت تُمنع فيه المساعدات من الوصول إلى السكان، قائلاً: «نحن في هذه المرحلة أمام محاولة لتجريد الناس من إنسانيتهم». وأردف: «هناك مساحة شاسعة من المساكن العشوائية؛ فالناس تصنع الملاجئ من الكرتون والسجاد وغيرها»، علماً أنّ قوات الاحتلال تمنع دخول الخيم وإنشاء مخيمات منظمة. كذلك، تملأ طوابير السكان الذين ينتظرون الحصول على الماء والخبز، واستعمال الحمامات حتى، المكان. كما أنّ الإمدادات المحيطة بالملاجئ لا تكفي لتصريف المياه، ما يؤدي إلى تشكل الوحول في كل مكان حولها. وإذ لا يزال الباعة المتجولون الذين يبيعون اللحمة والخضار والجبنة، طبقاً للطبيب نفسه، موجودين في الشوارع، فإن غالبية الناس لا تمتلك المال الكافي لشراء البضائع، لا سيما بعدما تضاعف سعر الأخيرة مرتين وثلاث مرات؛ حيث وصل سعر البيضة الواحدة، مثلاً، إلى 1 يورو تقريباً. وتخلق مثل تلك الظروف الخانقة جواً «قابلاً للانفجار» في أي لحظة، إذ يتحول، في بعض الأحيان، خلاف فردي إلى ما هو أشبه بـ«أعمال شغب»، تشمل عدداً أكبر من المواطنين.

ندوة الفريق الطبي
ولم تقتصر الشهادات التي تمّ الإدلاء بها، في الآونة الأخيرة، على بيتي وحده، إذ نظم، في 13 شباط، الوفد البرلماني الفرنسي الذي زار، في وقت سابق من هذا الشهر، رفح، ندوةً لوفد الأطباء الفرنسيين من مؤسسة «PalMed»، الذين كانوا في غزة أيضاً. ولم يتردّد هؤلاء في إفاداتهم في التأكيد أنّ «الإبادة الجماعية تمضي على قدم وساق» في غزة، مشيرين إلى أنّ الكثير من المرضى، ولا سيما الأطفال، كانوا يموتون «خلال مدة الليل». وفي السياق، قالت إحدى الممرضات المشاركات في البعثة: «كانوا يحملون جثث أولادهم، ويركضون بها بعد أن نبلّغهم بموتهم»، إلا أنّهم، مع ذلك، كانوا يتعاملون معنا بـ«احترام».