لم تحجب قساوة مشهد الطيار الأميركي، آرون بوشنيل، وهو يحرق نفسه أمام مبنى السفارة الإسرائيلية في واشنطن، احتجاجاً على سياسات بلاده الداعمة للعدوان على غزة، الهزال النسبي في التغطية الإعلامية الأميركية للحدث. فوسائل الإعلام هذه، والتي في كثير من الأحيان «تجنّد» صفحاتها وكتّابها لإغداق سيل من التحليلات شبه اليومية حول قضايا متنوعة، وبخاصة تلك التي تندرج ضمن «سلّم أولوياتها التحريرية»، كالقضايا المتصلة بـ»الإرهاب»، كما تراها واشنطن، أو بعض الجوانب «السطحية» المتعلّقة بالعرب والمسلمين، وبلدانهم، وجدت نفسها غير معنية هذه المرّة، وبمستويات متفاوتة، بالذهاب إلى ما هو أبعد من الخوض «الخجول» في الدوافع السياسية للطيار الذي قضى وهو يردّد: «فلسطين حرّة»، مكتفيةً بالسردية الخبرية للحدث.
ميول «يسارية» واضطرابات عقلية!
اكتفت شبكة «سي إن إن» بعرض تقرير إخباري قصير عن الواقعة، شأنها شأن شبكات تلفزيونية أميركية أخرى، على غرار «سي بي إس»، و»فوكس» التي حاولت التركيز على الميول «الاشتراكية» لبوشنيل، والتعاطف الذي أثارته الواقعة لدى بعض التيارات اليسارية في البلاد، وفي طليعتها «منظمة الاشتراكيين الديموقراطيين في أميركا»، وهي منظمة عمالية تستمدّ جذورها التنظيمية تاريخياً ممّا كان يُعرف بـ»الحزب الاشتراكي الأميركي»، ولدى مَن وصفتهم بـ»المرشّحين الرئاسيين اليساريين»، في إشارة إلى مواقف المرشّح المستقل للانتخابات الرئاسية الأميركية كورنيل ويست، والمرشحة عن «حزب الخضر» جيل شتاين. وفيما اقتصرت تغطية «نيويورك تايمز» على المضامين السياسية للحادثة، على وضعها في سياق ما سمّته «الاحتجاجات شبه اليومية المناهضة لإسرائيل في سائر أنحاء الولايات المتحدة»، و»تنامي الضغوط الدولية الداعية إلى وقف إطلاق النار في غزة»، حاولت مجلّة «نيوزويك» التلميح إلى وجود اضطرابات عقلية يعانيها الرجل. أما صحيفة «واشنطن بوست» فاستعرضت، بشيء من الإسهاب، خلافاً لزميلاتها، الخلفيات الاجتماعية والفكرية لبوشنيل (تطوّع في صفوف الجيش الأميركي في أيار 2020)، وإنْ بأسلوب لا يخلو من التوهين بـ»الانتماء القومي» للرجل، من بوابة التصويب على قناعاته الفكرية والسياسية ذات الطابع الاشتراكي، «المشيطَنة» في وسائل الإعلام الأميركية، كاشفةً في تقريرها الصادر ضمن الملحق الخاص بـ»أخبار الجريمة والسلامة العامة»، أن الطيار البالغ من العمر 25 عاماً، والذي كان يخدم بصفته خبيراً في مجال الدفاع السيبراني في سرب دعم الاستخبارات الرقم 31 داخل قاعدة «سان أنطونيو لاكلاند» في ولاية تكساس، انتمى خلال فترة معينة من حياته إلى مجموعة دينية مثيرة للجدل، تطلق على نفسها «جماعة المسيح»، ويجمع ما بين أبنائها توق إلى الشعور بالانتماء المجتمعي، وتسود في صفوفهم رغبة في الانتساب إلى الجيش كشكل من أشكال «الانضواء تحت مجموعة عليا متنفذّة».
ثمّة مَن أصرّ على توصيف ما فعله بوشنيل كـ «حادثة انتحار، من قِبَل شخص مختلّ عقلياً»

وأوردت الصحيفة، نقلاً عن أصدقاء مقربين من الطيار الذي أحرق نفسه رفضاً لـ»الإبادة الجماعية الدائرة في غزة»، أن الأخير كان يحمل أفكاراً «أناركية»، أو ما يُطلق عليه «مذهب الفوضوية» الرائج، كفلسفة سياسية واقتصادية، في صفوف اليساريين داخل الولايات المتحدة، مشيرة إلى حضوره فعاليات نظّمها ناشطون محسوبون على التيارات الاشتراكية، ومشاركته وإيّاهم في نشاطات ذات طابع خيري، كتقديم الطعام والملابس للمحتاجين. وأشارت الصحيفة، نقلاً عن أصدقاء لبوشنيل في الجيش، إلى أنه عمد في الآونة الأخيرة، وعلى خلفية تفاقم الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إلى إظهار لهجة انتقاد «شديدة، وأكثر صراحة» تجاه ممارسات القيادتَين السياسية والعسكرية للبلاد، مؤكدة أن «غضبه وخيبته حيال الدور الأميركي في حرب إسرائيل على قطاع غزة» مردّهما إلى «أنّ أحداً من المسؤولين (الأميركيين) لا يلقي آذاناً صاغية لمطالب المتظاهرين التي تجري أسبوعياً» في أنحاء مختلفة من البلاد.

بين التعاطف والرفض
فور شيوع خبر إحراق بوشنيل نفسه، تفاوتت ردود الفعل عبر مواقع التواصل الاجتماعي بين مَن رأى، وبخاصة في صفوف الناشطين الأميركيين المعارضين للحرب، أن ما أقدم عليه الرجل يُعدّ بمثابة «عمل بطولي»، وفق ما ذهبت إليه الناشطة السياسية آية حجازي، وأنه جاء ليحدث «هزّة على مستوى (الوجدان) العالمي، في موازاة الدعوة إلى استيقاظ العالم من سباته حيال ما يجري، والانعتاق من عملية غسل الأدمغة، وحرف الأنظار الذي تمارسه الديستوبيا الغربية» حيال مجريات الحرب في غزة، كما جاء على لسان الصحافية الأميركية، كايتلن جونستون؛ وبين مَن حذّر من مخاطر اتباع هذا الأسلوب كسبيل للاحتجاج على السياسات القائمة. وفي مقابل إصرار كثيرين من رواد تلك المواقع من الأميركيين على أن ما أقدم عليه بوشنيل يندرج ضمن خانة «الدعوة إلى تحرّك المعنيين في السلطة، والقادرين على القيام بشيء ما لتغيير مسار السياسات الأميركية القائمة، ووقف حرب الإبادة الجماعية» في غزة، ثمّة مَن أصرّوا على توصيف الأمر كـ»حادثة انتحار، من قِبَل شخص مختلّ عقلياً»، رافضين تبرير ما قام به الطيار الأميركي أو التعامل معه كـ»سلوك احتجاجي مبدئي»، أو الاعتراف بـ»مشروعيته السياسية».
أمّا على المستوى السياسي، فقد أعرب سياسيون عن تفهّمهم لدوافع بوشنيل، وفي طليعتهم السيناتور الديموقراطي، بيرني ساندرز، حين قال إن إحراق الرجل نفسه «يعبّر عن مدى عمق حالة اليأس التي تنتاب الكثيرين حالياً بسبب الكارثة الإنسانية المروّعة التي تحدث في غزة»، مضيفاً أنّه يتعيّن على الولايات المتحدة، الواقعة في عزلة دولية بسبب موقفها من الحرب، «أن تقف في وجه نتنياهو، وأن تحرص على عدم استمراره في القيام بذلك». بدورها، أعربت المرشحة عن «حزب الخضر» للانتخابات الرئاسية الأميركية، جيل شتاين، عن أملها بأن «تسهم تضحيات بوشنيل في تعميق التزامنا بوقف الإبادة الجماعية في غزة»، فيما أشاد المرشّح الرئاسي المستقلّ، كورنيل ويست، بـ»الشجاعة الاستثنائية» للراحل، معقّباً بالقول: «دعونا نصلّي من أجل أحبائه. دعونا نعيد تكريس أنفسنا مرّة أخرى من أجل التضامن الحقيقي والأصيل مع الفلسطينيين الذين يتعرّضون للإبادة الجماعية».