غزة | انتهت آمال المساء، بعودة الرجال غانمين كيس طحين واحداً، من مفترق النابلسي جنوب غربي مدينة غزة، على غير ما اشتهت العائلات وتمنّت النسوة. في أسفل المكان الذي يؤويني، حيث تفترش عائلة العراء، استمعت إلى ضحكات وأمنيات سبقت رحلة الليل الحالكة؛ إذ وعد الآباء أطفالهم بأن لا يشرق عليهم صبح اليوم التالي، إلا وقد تناولوا، لأول مرّة منذ أشهر، أرغفة من الخبز الأبيض. مع مغيب الشمس، بدأت رحلة مئات الآلاف من الرجال، العجائز، وحتى النساء والصبايا، إلى مفترق النابلسي الذي يقع عند شارع الرشيد غربي المدينة، حيث بوابة دخول شاحنات المساعدات من جنوب القطاع، إلى شماله. هناك، احتشد مئات الآلاف من الجائعين طوال ساعات الليل، على أمل الحصول على كيس واحد من الطحين. ومع ساعات الفجر الأولى، وبينما بدأت أولى شاحنات المساعدات بالدخول، تقدَّمت معها دبابة إسرائيلية، وفتحت النار من الأسلحة الرشاشة والقذائف، تجاه الآلاف الذين تزاحموا على الشاحنة الأولى. في الوقت ذاته، تقدّمت آليات أخرى، أخفى الظلام الشديد ماهيتها، وبدأت بدهس ودوس المتزاحمين. وفي السماء، حلّقت طائرات «الكواد كاتبر»، وأطلقت طوال ساعات، زخات كثيفة من الرصاص.
وعد الآباء أطفالهم بأن لا يشرق عليهم صبح اليوم التالي، إلا وقد تناولوا، لأول مرّة منذ أشهر، أرغفة من الخبز الأبيض

وفقاً لشهادة محمود بعلوشة، وهو واحد من هؤلاء الذين قرّروا خوض غمار المجازفة، فقد تحوّل المكان إلى مسلخ بشري، أصيب فيه المئات من الشبان والعجائز. سُمع الصراخ من مسافة تجاوزت الكيلومتر، فيما لم تستطع أيّ سيارة إسعاف التقدّم لانتشال وإسعاف أيٍّ من المصابين حتى الساعة السابعة صباحاً.
ومع بزوغ الفجر، تبدّت معالم المجزرة، حينما عادت الشاحنات التي كان من المقرّر أن تعود محمّلة بالطحين والمساعدات، وقد تكدّس عليها المئات من المصابين والشهداء، حتى ضاقت أقسام الاستقبال في مستشفيَي «الشفاء» و»المعمداني»، غربي وشرقي مدينة غزة بالمصابين، فبدأ الرجال بنقل الشهداء والمصابين إلى مستشفيَي «العودة» و»كمال عدوان» في محافظة شمال القطاع. وأشارت آخر الإحصائيات التي قدّمتها وزارة الصحة، إلى استشهاد نحو 130 مواطناً، وإصابة أكثر من 300 آخرين.
في شوارع القطاع الذي غصّ بموجة حادّة من الحزن، استحالت الآمال بالحصول على رغيف خبز، إلى جنائز وتقاذف للتهم. أم محمد، وهي جارتنا في السكن، سمع أهالي مخيم جباليا صوت نحيبها وهي ترثو نجلها البكر: «والله ترجيته ما يروح، والله بست إيده وقلتله ما بدنا طحين، كرهت الطحين والخبز، يحرم عليا أكله ليوم ما أموت». في صباح اليوم، يوم الحزن الرهيب ذاته، وفيما كانت العائلات تدفن أبناءها الشهداء الجوعى، لم تستحِ الطائرات العربية من إعادة إنتاج مسرحية الإنزال الجوي ذاتها؛ حيث ألقيت أربعة برشوتات في محافظة الشمال، وانتظرتها عيون الأهالي الذين ترقّبوا سقوطها في أوساطهم، لكنها هذه المرّة لم تذهب إلى الجهة الغربية من شمال القطاع، ما يعني أنها لن تسقط في البحر. ولم تكد موجة التهليل والتصفيق تنتهي، حتى تبيّن أنها سقطت كلها في مستوطنات «غلاف غزة».