غزة | تتواصل عمليات الاستعراض الجوية في سماء قطاع غزة عبر طائرات شحن عسكرية ضخمة، تلقي كميات محدودة من المظلات التي تحمل موادَّ إغاثية، بطريقة غير منتظمة ولا دقيقة. وبينما يسقط بعضها في البحر، وبعض آخر على شاطئ موقع «زيكيم» العسكري الإسرائيلي، يثير ما يسقط في الأحياء المأهولة والطرفية، اندفاعاً من الغزّيين للحصول على ما يسدّ الرمق، من دون أن يحقّق أيّ فائدة تُذكر، إذ تلقي الطائرة الواحدة من ثمانٍ إلى عشر مظلات في كل جولة، علماً أن كل مظلة تحتوي على ما لا يزيد على 50 طرداً غذائياً، فيندفع الآلاف في عملية ملاحقة شاقّة لتلك المظلات، من حارة إلى أخرى، ومن بيت إلى آخر، وهو أمر يعتبره الغزّيون مهيناً إلى حدّ كبير. وقبل أن تهبط المظلة على الأرض، تتكدّس الآلاف من الأفواه الجائعة في انتظارها، قبل أن تتنازع كل طرد مئات الأيدي، ويرجع الآلاف من رحلة المطاردة، خائبين ومنهكين وغاضبين.ويقول أبو محمود، لـ«الأخبار»: «ماذا يفعل الجائع؟ دعك مني. ماذا يفعل من يجوع أطفاله، ولا يجد ما يطعمهم إياه؟»، مضيفاً: «والله في حياتنا ما قبلنا صدقة، حتى نقبل هذا الإذلال. كل ما يفعلونه إجراءات شكلية، غرضها إعفاء إسرائيل من مسؤوليتها، وتعزيز صورتنا كشعب جائع فقط. لأ، إحنا شعب كريم وعزيز ومقاوم، وبنجوع لأننا ذلّينا جبروتهم وآلتهم العسكرية».
في أسواق القطاع، التي تشكّل مرآة الحالة المعيشية للأهالي، يبدو واضحاً أن كلّ المساعدات، التي تُلقى من الجو، أو أعداد الشاحنات المحدودة التي تدخل إلى شمال وادي غزة، من مفترق النابلسي أو دوار الكويت، لم تُحدِث فارقاً في المشهد، إذ ثمة نحو نصف مليون جائع، يدخل إليهم من الأرض ويُلقى عليهم من السماء، ما لا يكفي عشرة آلاف فقط. على أن المُحبِط أكثر، أن نبتة الخبّيزة الموسمية، والتي أضحت الوجبة الوحيدة للأهالي في شمال وادي غزة، بدأت بالنفاد، بعدما تسبّب الاستهلاك الجائر لها بشحّها. وتقول أم نضال، وهي سبعينية تخوض يومياً رحلة شاقّة لجمع الخبّيزة من الأراضي الزراعية الشمالية لمدينة بيت لاهيا: «قضيت خمس ساعات وما جمعت غير خمسة كيلوغرامات، الناس كلهم بيطلعوا من الفجر يلمّوا خبّيزة. في السنوات السابقة، لم يكن أحد يأكلها. اليوم لا يوجد غيرها. لذلك، الأراضي فرغت من الخبّيزة تقريباً (...) لا أعرف عندما ينتهي وجودها، ما الذي سيأكله الناس؟».
على دوار النابلسي، حيث وقعت مجزرة الطحين في ليلة 29 شباط الماضي، لا يزال الآلاف من الأهالي يتوافدون كل مساء، ويقضون ليلتهم في انتظار دخول شاحنات المساعدات. أمس مثلاً، دخلت 31 شاحنة، لكنها لم تذهب إلى أي جهة حكومية أو عشائرية أو أهلية، ليتكرر السيناريو نفسه: يندفع الآلاف نحو أول شاحنة تتجاوز الحاجز الإسرائيلي، وتتنازع أيديهم ما يصل، فيما تقع أكياس الطحين على الأرض، وتطلق الدبابات النار باتجاه الشاحنات والأهالي على حدّ سواء. وهكذا ينتهي مشهد الفوضى اليومي، من دون أن يشبع أحد. ويقول مصدر مطّلع لـ«الأخبار» إن «بعض العائلات المتنفّذة، شكّلت ما يشبه المافيا المنظّمة، وتحتمي بدبابات الاحتلال، وتقوم يومياً بسرقة الكمية الكبرى من الطحين، ثم تضخّه إلى الأسواق بأسعار فلكية». ويضيف: «وصل سعر شوال الطحين إلى 1000دولار، علماً أن سعره الطبيعي لم يتجاوز في يوم من الأيام الـ 15 دولاراً».
وفي غضون ذلك كله، أخذت أعداد الوفيات نتيجة سوء التغذية والجفاف، تتصاعد في مستشفيات القطاع، حيث أُعلن أمس عن حالتي وفاة، ما يرفع عدد ضحايا الجوع إلى 18 شهيداً.