غزة | تكرّرت «المسخرة» ذاتها في سماء قطاع غزة. لكنها تحوّلت، أمس، إلى «مسخرة دامية»، جرّاء سقوط خمسة شهداء فلسطينيين عندما وقع طرد مساعدات من دون مظلّة على رؤوسهم، أثناء انتظارهم للحصول على ما يسد رمق أطفالهم أو ذويهم. وهو طرد تبرّأ منه من حاولوا الاستفادة في ترتيب شحنات سابقة من علاقتهم بإسرائيل لتمنين الفلسطينيين ببعض الفتات، وتحقيق مكاسب سياسية لهم ولها.طائرات متعدّدة الجنسيات تجوب سماء المناطق الجائعة والمنكوبة في القطاع، وتلقي العشرات من المظلّات التي تحمل طرود المساعدات. هذه المرة، سقطت شحنة منها، كان من المفترض أنها تحمل رمق الحياة الأخير، على رؤوس العشرات من الشبان الذين اندفعوا لاستقبالها في منطقتَي الشاطئ والشيخ رضوان في مدينة غزة، ما تسبّب باستشهاد خمسة مواطنين وإصابة العشرات. ببساطة، حدث «خطأ»، من جملة ما يمكن أن يحدث من أخطاء في عمليات كتلك. لم تنفتح المظلّة، فسقط الصندوق الخشبي بشكل حرّ من ارتفاع شاهق على رؤوس من ينتظرونه.
أما المشهد الأكثر سخرية، فهو أن تلك الدول التي صمّت آذانها طوال 150 يوماً من «المحرقة»، التي قُتل فيها ما يزيد على تسعة آلاف امرأة، لم تنسّ أن أمس، صادف الثامن من آذار، «يوم المرأة العالمي». وحتى تحمل مساعدات الإذلال قليلاً من «المشاعر» وتكتمل «المسخرة»، جعلوها باللون الوردي الزاهي، وكدّسوا فيها كميات من الفوط النسائية والبسكويت الذي أخذ شكل رأس القلب الزهري! الولايات المتحدة ذاتها، ومن خلفها لفيف من الدول الأوروبية، التي زوّدت إسرائيل بالمئات من أطنان القذائف والصواريخ التي قصفت بها النساء من الجو، وأيضاً، الدول العربية التي فتحت لها جسراً يمد جيشها بالخُضر الطازجة والوجبات الساخنة، هؤلاء أنفسهم، يحتفلون بنساء غزة!
النساء الشهيدات، اختارت لهن السماء قدراً، أخفّ وجعاً من الحياة في هذه الظروف، إنما ماذا عن الثكالى اللواتي يعشن اليوم آلام الفقد؟ عن الآلاف من أمثال والدة الطفلين وسام ونعيم أبو عنزة، اللذين انتظرتهما 11 عاماً، وحينما فتحت السماء أبوابها، ألقت الطائرات قنابلها؟ عن المئات من اللواتي فقدن المأوى، ويعشن في مراكز الإيواء، بلا فراشٍ دافئٍ أو سقف أو خصوصية؟ عن المئات من الجريحات، ذوات الوجه المضيء، والأطراف المبتورة؟ عن حياة الشقاء التي تعيشها بنات بعمر الورد، اضطررن إلى مكابدة صعاب حياة كان الناس يعيشونها في القرن التاسع عشر، ولكن في عام 2024: البحث عن لقمة يسدُدن بها جوع أطفالهن، وحمل دلاء الماء لمسافات طويلة، وإشعال النار على الحطب لتسخين ماء الاستحمام للأطفال، ثم الجلوس لساعات أمامها للخبز، ثم الطهو، ثم العودة مجدداً لنقل الماء، لغسل الأواني؟ لقد فعلت هذه الحرب المستمرة الكثير.
بماذا يحتفل العالم؟ هل أخبرته نساء غزة، اللواتي فقدن أزواجهن وعائلاتهن، بما تثيره فيهن مظلّات المساعدات الوردية التي لن تصل قطعاً إليهن؟ هل يعتقد أصلاً، أن امرأة فقدت الزوج وثلاثة من الأبناء، ستتذكّر بعد نهار شاقّ، تلك اللفتة الكريمة، وتقول: «والله كفو»؟