مع قرب انجلاء غبار المنافسة الرئاسية التمهيدية للحزبَين الديموقراطي والجمهوري، والمناخ الدولي المصاحب للعدوان الإسرائيلي على غزة، وآخره ما أُشيع عن مشروع قرار أميركي مرتقب في مجلس الأمن الدولي لوقف إطلاق النار بين فصائل المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، عادت الحرب المتواصلة على القطاع لتفرض نفسها جدّياً كأحد أبرز عناوين المشهد السياسي في الولايات المتحدة. ومن الشواهد على ارتقاء تلك الحرب على جدول أعمال «رئاسيات أميركا»، مواصلة الإدارة الأميركية، التي تبنّت نبرة نقدية متصاعدة ضدّ حكومة بنيامين نتنياهو، مساعيها لإقناع الجانب الإسرائيلي بالموافقة على «هدنة مؤقتة» تتيح الإفراج عن أسرى من الطرفَين، فضلاً عن بروز مواقف «فاقعة» عبّر عنها دونالد ترامب أخيراً، عنوانها تأييد الجرائم الإسرائيلية بحقّ المدنيين في غزة. وفي الموازاة، يستمرّ الجدل القائم بين المرشّحَين في شأن مقاربة الحرب وآفاقها المحتملة، وما يتفرّع منها بخصوص الموقف من الحكومة الإسرائيلية الحالية، بحيث تحوّلت قضية غزة، إلى عنصر أساسي في «البنود الخارجية» للخطاب الانتخابي لكلّ من الرئيس الحالي، جو بايدن، وسلفه ترامب المعروف بقربه من «زعيم الليكود».
«إرث ترامب» الفلسطيني إلى الواجهة من جديد
آخر محطّات الحرب الكلامية بين الرجُلَين، والمتمحورة حول «إظهار الولاء لإسرائيل»، ضجّت بها وسائل الإعلام الأميركية والعالمية، حين أعرب ترامب، أسوة بالسيناتور الجمهوري ميتش ماكونيل، عن استهجانه للانتقادات الصادرة أخيراً بحقّ الحكومة الإسرائيلية عن مسؤولين في الإدارة، وبرلمانيين من الحزب الديموقراطي الذي قال إنه «يكره إسرائيل». وعطفاً على مواقف سابقة خاطب فيها نتنياهو بهدف تحريضه على مواصلة هجماته ضدّ الفلسطينيين، وحثّه على «الانتهاء من الأمر» في غزة، بزعم «الحاجة إلى السلام في الشرق الأوسط»، وبالتزامن مع أنباء عن زيارة عدد من مساعدي ترامب مطلع الشهر الجاري لإسرائيل للاجتماع بمسؤولين في حكومة نتنياهو، بادر المرشّح الجمهوري إلى التصعيد من حدّة هجومه ضدّ مواطنيه من اليهود الذين يصوّتون لمصلحة الديموقراطيين، متّهماً إيّاهم بأنهم «يكرهون دينهم ويكرهون إسرائيل». ورأى ترامب، بعدما دأب طويلاً على تجنّب الخوض في إطلاق مواقف في شأن حرب غزة، أنه «يتعيّن على هؤلاء أن يخجلوا من أنفسهم لأن إسرائيل ستُدمّر». وفي إطار محاولات المعسكر المؤيّد لترامب استمالة أصوات الجالية اليهودية الأميركية، التي تميل تاريخياً إلى تأييد الحزب الديموقراطي، وضمن خطوة نضحت بالملامح العامة لـ»سياسة ترامب الإسرائيلية»، كان صهر الرئيس السابق، وعراب «اتفاقات أبراهام»، جاريد كوشنر، قد اقترح، أخيراً، سلسلة خطوات لـ»إنهاء المهمّة» في قطاع غزة، من بينها إفراغه من السكان، وضمناً مدينة رفح، قبل الانتقال إلى «تطهيره» لاحقاً، وذلك في موازاة العمل على «إنشاء منطقة آمنة في النقب» تكون مخصّصة لاستقبال النازحين الفلسطينيين، من دون أن يستبعد في الوقت نفسه محاولة دفع هؤلاء إلى مصر، من خلال انتهاج ما سمّاه «الديبلوماسية الصحيحة». ومتبجّحاً بأنه «لم يتبقَّ الكثير من غزة على أيّ حال»، زعم كوشنر، لدى إلقائه محاضرة في «جامعة هارفرد»، أن إسرائيل «بذلت قصارى جهدها أكثر من الدول الأخرى» لتجنّب سقوط ضحايا من المدنيين، مشيراً إلى أن عقارات غزة ذات الواجهة البحرية قد تكون «ذات قيمة عالية» لإسرائيل. وعلى رغم عدم نفيه صحّة مخاوف الأطراف العربية من إمكانية أن تمنع إسرائيل سكان غزة من العودة إلى مناطقهم، شدّد كوشنر على أن منح دولة للفلسطينيين «فكرة بالغة السوء، لأن من شأنها أن تقدّم مكافأة لمن أقدم على عمل إرهابي».
اقترح كوشنر «إنشاء منطقة آمنة في النقب» تكون مخصّصة لاستقبال النازحين الفلسطينيين


انتقادات شومر لنتنياهو: غزة في «بازار» الانتخابات الأميركية؟
صفارة بداية السجال المتجدّد حول حرب غزة، بين الجمهوريين والديموقراطيين، كان قد أَطلقها زعيم الأغلبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ، صاحب السجل الحافل في الدفاع عن إسرائيل، تشاك شومر، حين وجّه، بتأييد جليّ من بايدن، انتقادات غير مسبوقة إلى الحكومة الإسرائيلية، على خلفية أدائها السياسي والميداني بعد أحداث السابع من أكتوبر، محرّضاً على إجراء انتخابات مبكرة، وتنحية نتنياهو، لرفضه «إجراء تعديلات جوهرية» في نهجه حيال غزة. وتلك المواقف سبقتها تصريحات لبايدن، قال فيها إن نتنياهو «يؤذي إسرائيل، أكثر ممّا يعينها». وبحسب محلّلين، فإن ما لهجت به ألسنة أبرز وجوه الحزب الديموقراطي يتقاطع مع تصاعد ضغوط تياره التقدّمي المناهض للحرب، وبات يطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل العلاقة الأميركية - الإسرائيلية، ولا سيما أنها تأتي مصحوبة بدخول الموقف من الحكومة الإسرائيلية على خط الصراع الحزبي في واشنطن.
وبغرض الوقوف عند ما وصفه بـ»التحوّل العميق على مستوى السياسة الأميركية، والجوانب الجيوبوليتيكية الشرق أوسطية المتعلّقة بها»، طرح الكاتب والمعلّق السياسي المخضرم في صحيفة «نيويورك تايمز»، توماس فريدمان، تساؤلاً مفاده: «ما الذي طرأ على العلاقة بين الولايات المتحدة ونتنياهو، إلى حدّ يدفع بشخصية مخلصة لشعارات الحفاظ على أمن إسرائيل وازدهارها، مثل تشاك شومر، إلى دعوة الإسرائيليين لاستبدال رئيس حكومتهم؟». وفي محاولته الإجابة، يؤكد الكاتب أن «تجاهل الإسرائيليين، وأصدقاء دولة إسرائيل، على حدّ سواء، للتساؤل المشار إليه يجعلهم عرضة للخطر»، موضحاً أن جانباً كبيراً من الإجابة عنه يرتبط بـ»التحوّل الكبير الذي أحدثته حرب غزة، على نحو جعل من رفض نتنياهو التعبير عن أيّ رؤية للعلاقات الإسرائيلية - الفلسطينية المستقبلية، على أساس تكريس دولتَين لشعبَين، يُعدّ بمثابة تهديد لأهداف السياسة الخارجية لبايدن وفرص إعادة انتخابه، ولا سيما أن استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط حالياً، وما يتّصل بها من مصالح إسرائيلية بعيدة المدى، إنّما تعتمد على الشراكة بين إسرائيل، والسلطة الفلسطينية في رام الله، غير التابعة لحماس، سواء في ما يخص تلبية الاحتياجات التنموية للفلسطينيين على المدى البعيد، أو ما يتعلّق بالدفع قدماً نحو حلّ الدولتَين». ويشير الكاتب إلى عدّة أسباب للتحوّل في موقف إدارة بايدن من نتنياهو، أولها الحصيلة البشرية الكبيرة لحرب غزة، وثانيها اقتناع البيت الأبيض، من منطلق التوجّس من الآثار السلبية للحرب على شعبية بايدن، بحاجة إسرائيل إلى الوقوف في مواجهة «التسونامي الإعلامي» الموجّه ضدّها، وذلك من خلال «إعطاء إشارات حول عزمها على وقف الحرب، والانتقال نحو عملية سلام وفق أسس حل الدولتَين»، وهما مطلبان لا توافق عليهما حكومة نتنياهو.
ويلفت فريدمان إلى أنّ ثمة سبباً ثالثاً يرتبط بانخراط إسرائيل في هذه الحرب لغايات تتخطّى طابع رد الفعل والانتقام، الذي طبع كل حروبها السابقة مع حركة «حماس»، عبر الإصرار على «القضاء على حماس نهائياً، من دون وجود تصوّر بديل في شأن كيفية حكم غزة بصورة شرعية من قِبَل فلسطينيين غير تابعين لحماس... ومن دون مسار (تفاوضي) يتمتّع بالشرعية، يفضي إلى حل الدولتَين»، بينما يتّصل السبب الرابع بعدم صياغة تل أبيب ردّها (العسكري والسياسي)، بصورة «تراعي متطلبات صون اتفاقيات أبراهام، وعملية التطبيع الناشئة بينها وبين السعودية». كما يعرض فريدمان سبباً خامساً، بالقول إن «الطريقة الوحيدة التي يمكن إسرائيل من خلالها بناء تحالف إقليمي، وتمكين بايدن في الوقت عينه من المساعدة في تشكيل هذا التحالف، تتمثّل في سعي تل أبيب لتدشين عملية سلام مع الفلسطينيين، بصورة تقصي حماس، بوصفها الخطوة الأساسية الضرورية لقيام تحالف إقليمي ضدّ إيران ووكلائها، وروسيا والصين». أمّا السبب السادس، فيرتبط بـ»صعود تيار اليسار التقدّمي» (المناهض للحرب) في الولايات المتحدة، في إشارة إلى تحوّل نسبة وازنة من اليهود الأميركيين عن تأييد سياسات نتنياهو، من جهة، و»تبلور تحالف ضمني بين الأخير وترامب»، من جهة ثانية.