عاد الاهتمام الدولي بالحرب في السودان إلى الواجهة، مع تزاحم عدد من الفعاليات ومعها تصريحات المسؤولين الدوليين، وفي مقدّمهم الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرتش، المنتقدة لاستمرار الحرب. وكان لافتاً، في ظلّ هذا الزخم، بروز أسماء دول بعينها، من مِثل الإمارات، كداعمة لاستمرار القتال، بأيّ تكلفة كانت، من دون طرح أيّ حلول أو إجراءات. وميّز «مؤتمر باريس» حول القضايا الإنسانية في السودان (15 الجاري)، برعاية فرنسية وألمانية وأوروبية، تلك العودة، وذلك على رغم الجدل الذي رافقه في شأن مدى تمثيل الوفد السوداني لأطراف الأزمة، في ظلّ غياب التمثيل الحكومي. ويبدو أن التوجّه شمالاً سيكون هو شعار المرحلة المقبلة في مقاربة الصراع، لاعتبارات إقليمية مثل اضطراب الموقف المصري وتراجعه على نحو غير مسبوق منذ اندلاع الحرب، وتوتّر سياسة الإمارات (وجنوحها المتوقّع نحو معاداة الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان) على خلفية تدخُّل أطراف أخرى مثل تركيا وإيران، فيما يترقّب المعنيون انطلاق «منصة جدة» مطلع الشهر المقبل.
مؤتمر باريس: وعود فارغة؟
قدَّرت هيئات الإغاثة الإنسانية الأممية حاجتها إلى 2.7 مليار دولار في العام الجاري لتوفير الغذاء والرعاية الصحية وإمدادات أخرى لنحو 24 مليون سوداني (من أصل 51 مليوناً) تضرّروا جرّاء الحرب. ولاحظت أن إجمالي المساهمات المقدَّمة لهذه الغاية، لم يتجاوز 145 مليون دولار، أو نحو 5% فقط من المبلغ المستهدف، فيما حذّرت من تعرُّض 230 ألف طفل وأمّهات حوامل أو لديهنّ أطفال رضّع لخطر الوفاة بسبب سوء التغذية. وفي هذا السياق الكارثي، الذي لم يثر انتباه العالم ودول جوار السودان طوال عام كامل، جاء «مؤتمر باريس» في محاولة لحشد موارد «غربية وخليجية» للحيلولة دون تفاقم الأزمة الإنسانية في ذلك البلد. وأعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي ترأّس المؤتمر، أن بلاده وحلفاءها تمكّنوا من جمع «تعهدات» بقيمة تتجاوز 2.1 مليار دولار للقضاء على الأزمة الإنسانية في السودان، من دون تقديم تفاصيل حول حصص مساهمات الدول المعنية، فيما بادرت الإمارات إلى إعلان تعهّدها بتقديم 100 مليون دولار لدعم الشعب السوداني، إضافة إلى 150 مليوناً للسودان والدول المتضرّرة من أزمته طوال عام 2023، يخصّص جزء منها لإقامة مستشفى ميداني في شرق تشاد للاجئين السودانيين بتكلفة 20 مليون دولار، بحسب تصريحات ممّثل أبو ظبي في المؤتمر، شخبوط بن نهيان. وأعلنت أطراف أخرى مساهماتها، مثل الاتحاد الأوروبي (حوالي 370 مليون دولار)، وألمانيا (260 مليوناً) وفرنسا، (117 مليوناً)، والولايات المتحدة (147 مليوناً).
وعلى رغم تفاؤل المشاركين السودانيين بنتائج المؤتمر، إلا أنه لم يُكشف بعد عن آليات تقديم المساعدات والجدول الزمني المقرّر لها، مع تعاظم الشكوك حول جدّية تلك التعهدات، في ظلّ اقتصار تمثيل السودان على وفد مكوّن في الأساس من أنصار رئيس الوزراء الأسبق، عبد الله حمدوك، تحت مسمّى «تنسيقية القوى الديموقراطية المدنية» (تقدم)، والاتهامات التي أطلقها ماكرون نفسه إلى دول إقليمية بإذكاء الحرب في السودان، وضعف تأثير حضور السعودية في المؤتمر، على رغم حرص الرياض على طرح نفسها المنسّق الرئيسيّ مع واشنطن في جهود تسوية الأزمة في السودان.
على أيّ حال، فإن تلك التعهدات تظلّ مرتبطة بتحقيق تقدّم في جهود التسوية السياسية المرتقبة (وأولى محطّاتها في جدة - أيار)، وربّما يمكن اعتبارها محفّزاً مباشراً لأطراف النزاع للانخراط في محادثات جادّة بغية الاتفاق على قنوات لتمرير هذه المساعدات ضمن البنود العالقة الأخرى.
تعود «محادثات جدة» إلى الواجهة في ظلّ جهد أميركي كبير لاحتواء التطوّرات في السودان


مصر والأزمة في السودان: تراجعات بالجملة!
في ملاحظة أولية، لا تبدو وعود الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بانتهاج سياسات خارجية أكثر حسماً خلال ولايته الجديدة، ملموسة بعد في الشأن السوداني. ويضاف إلى ذلك، تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي بالقضية السودانية، ليس فحسب بسبب طغيان الحرب في غزة على ما سواها، لكن لاعتبارات أخرى من بينها ما يمكن تلمّسه من اضطراب في الرؤية المصرية بعد فشل البناء على قمّة دول جوار السودان التي استضافتها القاهرة منتصف تموز الماضي، وفشل القاهرة في تبنّي مواقف متوازنة تجاه أطراف الأزمة، ولا سيما افتقارها إلى قنوات مستدامة مع «المكوّن المدني»، وعدم قدرة الجيش السوداني على حسم الحرب. وجاءت مشاركة مصر في «مؤتمر باريس» كاشفة لحدود دورها في السودان، وحصْره راهناً بالانخراط في الأدوار الإقليمية والدولية. ويتّضح ذلك في ضوء اقتصار مقترحات القاهرة على تقديم دعم لوجستي للقطاع الطبي، وحرصها على تنسيق مبادرات الوساطة المختلفة وتكاملها، وتشديدها على ضرورة ضمان سيادة السودان ووحدته وسلامة أراضيه «على نحو يحفظ مؤسسات الدولة الشرعية من الانهيار»، في إشارة مباشرة إلى الجيش.

منبر جدة 3.0: السعودية تخلط الأوراق
للمفارقة - الملازمة للشأن السوداني -، يُتوقّع اختبار تراجعات القاهرة تلك في المخرجات المرتقبة من انطلاق «منصّة جدة»، وحجم الضغوط التي ستفرضها الأخيرة - بتنسيق أميركي - سعودي على الجيش للتراجع عن مواقفه الرافضة لأيّ تفاهمات سياسية مع قوات «الدعم السريع»، وهو السيناريو الأقرب إلى التحقّق في حال عدم نجاحه في تحقيق تقدُّم عسكري حاسم، على الأقل في العاصمة الخرطوم، واستمرار الإمارات في تقديم الدعم العسكري والمادي السخيّ لـ"الدعم". وتعود «محادثات جدة» إلى الواجهة في ظلّ جهد أميركي كبير لاحتواء التطوّرات في السودان، وتوسيع نطاق تلك المحادثات حتى تشمل مجمل جوانب العملية السياسية، بدلاً من تركيز آخر جولاتها في الأسبوع الأول من تشرين الثاني 2023 (المعروفة بجدة 2.0) على مسألة تيسير تقديم المساعدات الإنسانية وفرض وقف لإطلاق النار (في مناطق محددة على الأقل) وإجراءات بناء الثقة.
وترى الرياض، بحسب نائب وزير الشؤون الخارجية السعودي وليد الخريجي، ممثل بلاده في «مؤتمر باريس»، أن الطريق الوحيد لإنهاء الأزمة يتمثّل في «حلّ سياسي سوداني - سوداني» يحترم سيادة البلاد ووحدتها وسلامة أراضيها، على نحو يقود إلى وقف لإطلاق النار، بما يحفظ قدرات البلاد ويحول دون سقوط مؤسساتها، وهي تصريحات تبدو مضطربة في ترتيب الأولويّات، إذ تضع التوصّل إلى وقف لإطلاق النار تالياً للتوصل إلى اتفاق سياسي شامل طالما رُفضت بنوده ضمنياً من قِبَل أطراف النزاع لأسباب متباينة للغاية. ويعني في المحصلة ضرورة تفكيك قوات «الدعم السريع» ودمجها - بشروط مهنية مفهومة - في الجيش كمؤسسة وطنية عسكرية وحيدة، وهو المأزق الذي أثير قبل نيسان 2023 وقاد في الأساس إلى الحرب الجارية منذ أكثر من عام.
لكن إعلان الرياض - عشية استضافة المحادثات -، حرصها على الحيلولة دون انهيار مؤسسات السودان، يبدو موقفاً كاشفاً لحدود محادثات جدة، وطبيعة التنسيق السعودي - الأميركي ومساعي الرياض للمناورة في هوامش ضيّقة لوضع مسار وساطة جادّة، يحول على الأقل دون تمدُّد الحرب إلى مناطق أخرى (سواء شرق السودان أو تعمّق الأزمة في دارفور)، وما قد يعنيه ذلك من وصول السودان إلى نقطة اللاعودة ودخوله دائرة الحرب الأهلية المستدامة.

خلاصة
توجّهت أنظار السودانيين شمالاً، ترقُّباً لحلول لأزمتهم التي باتت واحدة من أخطر الأزمات في العالم من ناحية الخسائر البشرية وتهديدات السلم والأمن في القرن الأفريقي وإقليم الساحل وشمال أفريقيا. وتظلّ ثمّة مخاوف من أن تكون مقاربات «مؤتمر باريس» ومحادثات جدة المرتقبة، مجرّد حلقة جديدة في المساعي الدولية والإقليمية غير الجادّة للضغط في اتّجاه تسوية الأزمة، في ظلّ غضّ الطرف عن أدوار قوى إقليمية في دعم الانتهاكات الواسعة لحقوق السودانيين، وتراجع أدوار قوى إقليمية أخرى إلى مستويات دنيا، فضلاً عن عدم وضوح مدى جدّية الرياض وواشنطن في بذل جهود وساطة حقيقية، تقود إلى وقف عاجل لإطلاق النار، ثم إطلاق عملية سياسية شاملة وواقعية وغير انتقائية.