حسان الزين


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

لست معنيّاً ولا متحمّساً لكون مغارة جعيتا قد اختيرت من ضمن 28 موقعاً طبيعياً حول العالم، تتنافس على حجز مكان واحد بين عجائب الدنيا السبع . حالتي العاطفية «الوطنية» تشبه ما كنت عليه في خضمّ المعركة الانتخابية النيابية، التي قُسِّم فيها البلد والمواطنون، وقِيل آنذاك إنها محطة وطنية، ويُحكى بعدها أنها صفحة طُويت وحان موعد الوحدة. بالرغم من البراءة، التي لا يمكن إلا اتهام الدعوة إلى الدفاع عن المغارة وانتخابها بها، ماذا يعني أن يُوضع اسم جعيتا بين العجائب السبع؟ لا أتعمّد تتفيه الأمر. لكن، حقاً، ما معنى هذا، ونحن والمغارة في بلدٍ معنى المغارة في ثقافته الشعبية هو السرقة والفساد والضياع والخداع، بكلام آخر: الدولة ومتاهاتها، وبكلمات أخرى: كل ما هو غير جميل؟
من الظلم، بالتأكيد، تفسير مغارة جعيتا بهذا المعنى «الثقافي»، لكن الشيء بالشيء يذكر، والأمور مترابطة. فما معنى أن يُطلب فجأة إلى اللبنانيين، في الوطن والمهجر على حدّ سواء، أن يقوموا بأمر ما من دون مقدّمات، ومن دون أن يكون ما يُدعَون إليه ذا معنى بالنسبة إليهم! وليس مبالغة القول إن جزءاً كبيراً من اللبنانيين لم يدخل تلك المغارة التي كانت يوماً «لؤلؤة» تزيّن «الليرة».
ليست المسألة أن الدعوة إلى الانتصار لجعيتا أمرٌ تافهٌ وسطحيٌّ، فيما الواقع صعب ومأسوي. المسألة أن جعيتا، في وعي الكثير من اللبنانيين، ليست إلا مكاناً سياحياً، وفي أفضل الحالات، هي مكان هلاميّ غامضٌ لا ارتباطَ واضحاً صريحاً به. كأنها خارج المعنى والشعور الوطنيين. فاللبنانيون عموماً بالكاد مرتبطون بما هو فوق الأرض، وتحديداً بالمناطق التي يولدون أو يعيشون ويعملون فيها ويموتون عليها. وإذا ارتبطوا بمكان ما تحت الأرض يكون ملجأً أو سجناً. فما بالك بمغارة، وما أدراك ما المغارة. والمغارة المعنية هي جعيتا... مجرّد رمز سياحي يدخله اللبناني برسوم ليست في مقدور الكثيرين.
تستبطن الدعوة إلى الدفاع عن جعيتا وانتخابها كعجيبة خطاباً وطنياً لا يتجاوز السطحية التاريخية والكليشّيه السياحي. وهنا المشكلة، بل الخديعة التي لا يمكن اعتبار أن منظّمي الحملة خطّطوا لها وينفذونها. فهؤلاء موظفون في إدارة سياحية يقومون بعملهم. الخديعة تاريخية، وتجد اليوم منفذاً لها إلى المشهد والوعي اللبنانيين. وهي من تقديم أسطورة المكان، هبة الله والطبيعة، وعلى نحو استهلاكي، بدلاً من وعي المكان والزمان، بدلاً من ثقافة الوطن والأمّة والدولة. مرّة أخرى يُساق الوعي، أو يسوق نفسه، إلى لحظة كاذبة، مخادعة، مجّانية. لحظة وثنيّة أخرى تُعيد اللبنانيين عصوراً. وكأنه يلزمهم بعدُ تراجعٌ إلى ما دون الوعي. لحظة تدّعي اكتشاف المكان الذي ينعم اللبنانيّون به ويُدعَون إلى الدفاع عنه، مثلما يُدافع رجل الكهف عن كهفه، على نحو بديهي بدائي. دفاع من أجل الدفاع، يوازي وطنية من أجل الوطنية. معادلة بسيطة ترجمتها ليست إلا حماسة وتصويتاً لتحفة أبدعتها الطبيعة. ما يعني أن اللبناني حارس الجمال، ولا شيء سوى الجمال، وما لبنان سوى الجمال، وما الدفاع سوى الحماسة والتصويت (من حيث أنت).
تُعيد الدعوة هذه تشكيل العلاقة بين الإنسان والوطن، وتختزلها بعلاقة إنسان مع كهف وحجر. وإذ «تُذكّر» بالأيديولوجيا البالية الممجِّدة هذا الجزءَ الأرضي من السماء، لبنان، وتصوّره تاريخياً كملجأ، تُفسح المجالَ للدعوة إلى التصويت بوصفه دفاعاً عن المكان ـــــ الكهف ـــــ الوطن.
ليس في الدعوة إلى الانتصار للكهف مؤامرة. كل ما هنالك أن اللبنانيين يحبّون أن يَخدعوا أنفسهم، وأن يبسّطوا حياتهم ويسطّحوها، وأن يتغنّوا بوطنهم الجميل. فعلوا ذلك في السابق حين أرادوا تسويق «طبيعتهم» بوصفها منتجَاً ليس كمثله في «الصحراء» المحيطة، والآن هم مستعدون لإعادة تصديق الكذبة وتمثيل المسرحية التي لم يتحرّروا بعد من شعاراتها المعلوكة... لكن هذه المرة يحتاجون إلى عجيبة. يحتاجون إلى عجيبة لتذكير العالم بأن لديهم شيئاً نادراً. وحال مصدّقي كذبة العجيبة والمتحمّسين للفوز بها كحال من لا يتردّد في لفت نظر السارق إلى جوهرته. نزعة غامضة، مرضيّة، للتوازن إزاء العالم/ الآخر، من خلال إعادة تقديم الذات على نحو يُعتقد أنه لائق. وتقوم النزعة هذه على فكرة أن ثمة شيئاً ثميناً يملكه لبنان، أو يمثّله، وأنه ليس شحاذاً. ويُخاطب العالم: تعال إليّ تجدْ ما يسرّك، وهو ليس دماراً وحروباً، بل تحفة طبيعية لا تجدها إلا هنا. تحفة جميلة وعجيبة. عجيبة كيف لم تُدمّر، وكيف لم تصل إليها يدُ الكسارات... وعجيبة حقاً، إذا لم يكن فيها علي بابا والأربعون حرامياً.