سارة أسعدتنقّلت طويلاً في البوسطة، سنين أربع على خطّ أشرفية ــ فنار وأشرفيّة ــ حمرا. وتنقّلت كثيراً كثيراً في السّرفيس على كلّ الخطوط الّتي تربط أطراف العاصمة. وخلال هذه السّنوات الطّويلة من «الخبرة»، تعلّمت مجموعة من «الأخلاقيّات» غير المدوّنة، تجمع سرّاً ودونما اتّفاق بين الرّكّاب والسّائقين. الوصيّة الأوّلى: اُنصر «شوفيرك» ظالماً أو مظلوماً. وينطبق هذا الدّرس على سائقي الباصات العموميّة والسرّفيس على السّواء، فكم من مرّة نكون شهوداً على صراع بين سائق ستّينيّ، يضع منشفة مربّعة النّقشات على الكتف اليمنى، وسيجارة «السّيدرز» مدلّاة عن جانب الشّفة اليسرى، ظاهرة من بين أسنان قليلة صفراء، وسائق في سيارة أُخرى ـ العدوّ ـ صنديد ممشوق في «فانيلّا» باهتة عليها بقعة طعام فوق الكرش تقريباً. عند اندلاع الشّرارة الأولى لصراع أباطرة النّاصية، عليك الإمساك بإبط «شوفيرك» من أوّل «يا أخو...»، ثم تقبيل جبينه والاطمئنان إلى خاطره لاستكمال الطّريق بخير.
الوصيّة الثّانية: لا تنصح «شوفيرك» في ما يخصّ الزّواريب و «القادوميّات»، جوابه سيكون: «ولو عمّي، شو جداد بالمصلحة؟» ويظلّ يلفّ ويدور ولا يقبل أن يتوقّف للسّؤال عن الطّريق حتّى ينتهي عبد الحليم من «علك» الكاسيت نفسها: ومنين نجيب الصّبر يا أهل الّله يداوينا. وللسّائق عزّة نفس لا يكسرها سوى الاستعلام عن الاتّجاه أو الاستفسار من الرّاكب «المعتّر» الذي يكبت غيظه وهو في الشّارع المحاذي لبيته ولا يتجرّأ على التّدخّل في المهمّات المقدّسة كي لا يُطبع بالتّجديف.
الوصيّة الثّالثة: أكرم «شوفيرك» إذا قال لك: «الدّنيا عيد» وهو يمجّ سيجارته متجشّئاً إفطاراً دسماً بعض صيامه المقبول إن شاء اللّه. الحياة صعبة وبالكاد لديه ما يلبس أبناءه في العيد ويفطرهم، فينفطر قلب الرّاكب «المعتّر» مرّة أخرى و«يعايد» السّائق بما تيسّر. أمّا قبل الإفطار، فالحجّة الّتي لا تخيب لربح معركة المقايضة على التّسعيرة هي الجملة السّحرية الّتي تنجح في كسر جناحنا ـــ نحن الرّكاب ـــ في كلّ مرّة : «ولو! رح تفطّرنا يا زلمي والدّنيا عيد!».
الوصيّة الرّابعة: أحبب «شوفيرك» كنفسك. قدّم إليه سيجارة من النّوع الفاخر، سايره ولا تخالفه الرّأي في السّياسات الاقتصاديّة للحكومة، مازحه وشاركه هواجسه، حرّك رأسك تأكيداً لآرائه، تفهّم قرفه وآلامه، فالدّنيا عيد.