نقولا ناصيف
يوازي الرئيس أمين الجميل بين تحرّك يقوم به في أكثر من اتجاه والمزاج السلبي الذي بدأ يطبع مواقف الأفرقاء اللبنانيين من انتخابات رئاسة الجمهورية. ومع أنه لا يُدرج اسمه في عداد المرشحين المعلنين إلى جانب سواه في قوى 14 آذار، فإن اللجنة الرباعية المنبثقة من اجتماعات بكركي أضافت يوم السبت الفائت اسمه واسم الوزيرة نايلة معوّض إلى لائحة مرشحي 14 آذار. وهي إشارة إلى عدم اكتفاء فريق الغالبية بالمرشحين الرسميين، النائب بطرس حرب والنائب السابق نسيب لحود.
لكن الانطباعات التي يسوقها الجميل عن مسار الحوار الدائر حول الاستحقاق يكتنفها التشاؤم. وهو يعتقد بأن تاريخ 12 تشرين الثاني، موعد الجلسة الثالثة لمجلس النواب لانتخاب الرئيس الجديد، «ليس نهائياً. كان من الضروري إنهاء الانتخاب قبل 23 تشرين الأول، ويبدو الآن من المفضّل إجراؤه قبل 12 تشرين الثاني. لا ذلك حصل ولا هذا سيحصل ربما، والمهل الدستورية لا تؤخذ بالجدية اللازمة والملزمة في آن واحد. بل بات التاريخ الملزم للجميع هو 24 تشرين الثاني».
بذلك، لا يتوقع الجميل انتخاب الرئيس الجديد قبل الربع الساعة الأخير من المهلة الدستورية. بل يرى أن في الإمكان إجراء الانتخاب في أي يوم آخر بعد 24 تشرين، إلا أن الفراغ الدستوري يكون قد حصل عندئذ، وتساوت المخارج الدستورية بالمخارج غير الدستورية: تسلّم حكومة الرئيس فؤاد السنيورة صلاحيات رئيس الجمهورية، وتأليف حكومة ثانية أو نشر الفوضى في البلاد. وقد لا يكون سهلاً، في ظنّه، السيطرة على هذا الفراغ في ما بعد.
فالرجل خَبِرَ معادلة الاستحقاق المهدّد حتى الربع الساعة الأخير مذ أطلق العبارة، للمرة الأولى، المحامي كريم بقرادوني بعد إخفاق مهمة الموفد الأميركي الخاص ريتشارد مورفي في بيروت عام 1988. قال إن الاستحقاق الرئاسي هو في الربع الساعة الأخير. مع ذلك لم يَسَع الجميل، ولم يكن حليفاً لبقرادوني كاليوم ولا كانا في موقع سياسي وحزبي واحد، تأمين انتخاب خلف له في الربع الساعة الأخير الذي سبق انتهاء ولايته منتصف ليل 23 أيلول 1988، فأقدم على تأليف حكومة عسكرية انتقالية برئاسة العماد ميشال عون. ولم يكن في إمكانه تأليفها قبل يوم أو إثنين من الفراغ الدستوري آنذاك كي لا يقال إنه كان يعدّ لهذا الفراغ. كان استحقاق 1988 كاليوم، محاصراً بالدول الكبرى والإقليمية المتصارعة على أرض لبنان بوقود لبناني: الولايات المتحدة وسوريا وفرنسا وإيران.
تبدو خلاصة الرئيس السابق للجمهورية من استحقاق 1988 فرصة لاستعادة الدرس قبل انهيار استحقاق 2007 لأسباب أبرزها:
ـــ أن الحرب الناشبة في لبنان حينذاك، والوجود المباشر للجيش السوري على الأراضي اللبنانية، كانا من أسباب الحؤول دون انتخاب رئيس للجمهورية، الأمر الذي لا تقاربه تجربة استحقاق 2007، من غير أن يتجاهل الجميل طرح السؤال الآتي: «في ظل سعي الدول الخارجية إلى عرقلة الحل الوطني، أستغرب كيف أن المراجع اللبنانية لا تشعر بخطورة عدم انتخاب رئيس للجمهورية وانعكاسات ذلك على الاستقرار اللبناني برمته».
ـــ دفع المسيحيون، ولا سيما منهم الموارنة، ثمن الفراغ الدستوري عام 1988، بتعطيل انتخاب رئيس جديد للجمهورية لأمد غير منظور، ثم بانتقال الحرب إلى داخل المناطق المسيحية بدءاً بحرب 14 شباط 1989 (ضد القوات اللبنانية)، ثم حرب 14 آذار 1989 (ضد الجيش السوري لإخراجه من لبنان)، ثم حرب 31 كانون الثاني 1990 (ضد القوات اللبنانية مجدداً)، ثم حرب 13 تشرين الأول 1990 (ضد العماد عون). أضف، أن المسيحيين وحدهم دفعوا ثمن تسوية اتفاق الطائف من غير أن يكسبوا سيادة بلدهم ويسترجعوها من الجيش السوري، بدءاً بتقليص صلاحيات رئاسة الجمهورية وانتهاءً بتقييد دور الرئيس. بذلك كانت كلفة الحرب مسيحية، وكلفة التسوية مسيحية أيضاً. وكانت الكلفتان مارونيتين أولاً وأخيراً.
وفي تقدير الجميّل، رغم الجهود المبذولة وهو يشارك في أحدها، فإن أبواب الاتفاق حتى إشعار آخر موصدة تماماً. فطرفا النزاع لم يتزحزح أحدهما قيد أنملة عن شروطه، وهما بحوارهما يستنزفان المهلة الدستورية يوماً بعد آخر بلا نتيجة وبلا رغبة في الحل: لا محاورو الموالاة تخلوا عن ترشيحَي حرب ولحود، ولا محاورو المعارضة أهملوا عون. ولم تطرح جدياً بعد على طاولة التفاوض أسماء بديلة. وتالياً لا مخرج للاستحقاق الرئاسي قبل الربع الساعة الأخير من ولاية الرئيس إميل لحود. إلا أن الجميل لا يفقد الأمل في الحوارات تلك، ويبدي الملاحظات الآتية:
1 ـــــ توصّل في الاجتماع الذي عقده مع الرئيس نبيه بري في حضور النائب غسان تويني، يوم 22 تشرين الأول، إلى أفكار صالحة لتسوية داخلية تعتمد آلية محددة. ولمس الجميل تأييد بري لهذه الأفكار التي يعتقد أنها قادرة على الجمع بين التوافق واحترام القواعد الديموقراطية في الاستحقاق.
2 ـــــ لاحظ تجاوب سفراء معنيين مباشرة بالأزمة الدستورية اللبنانية، التقاهم في الأيام القليلة التي تلت اجتماع عين التينة، وآخرهم الإثنين المنصرم، وهم: السفير الإيراني محمد رضا شيباني، والأميركي جيفري فيلتمان والقائم بالأعمال الفرنسي أندره باران، مع المبادرة انطلاقاً من تعويلها على تحقيق توافق لبناني داخلي يدفع في اتجاه الاستقرار وإجراء الاستحقاق الرئاسي من ضمن المهلة الدستورية. وجاء هذا التأييد بالتزامن مع اجتماع عقده الجميل مع النائب حسن فضل الله الجمعة الفائت، ومع رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، وهو في صدد مناقشة الأمر مع العماد عون فور عودته من باريس. وفي حصيلة ما استنتجه من لقاءاته هذه موافقة الجميع على ضرورة إحداث خرق في جدار التصلب المتبادل بين طرفي النزاع. وشعر الجميل أن حزب الله هو مفتاح الحل في المعارضة، فرغب في الحصول على تأييد اقتراحاته.
3 ـــــــ يقول الجميل إن مبادرته تستند في أحد بنودها إلى إيجاد حل للترشيحات بالاستناد إلى التوافق، واعتبار قرارات مؤتمر الحوار أساساً صالحاً لمعالجة المشكلات القائمة بعد إنجاز انتخاب رئيس جديد. ومن غير أن يفصح عنها، يقول إنها تلتقي مع المطالب المحقة للأكثرية وتستجيب لمطلب المعارضة بتحقيق توافق حول الرئيس المقبل. إلا أنه لا يخفي أن كل الحلول الأخرى في ظل فراغ دستوري محتمل «ستكون مكلفة، سواء بتسلم حكومة السنيورة الحكم، وهو الحل الأول والطبيعي والدستوري للأزمة الدستورية هذه، أو دفع البلاد إلى حكومتين ورئيسين فيبقى لحود حيث هو والسنيورة حيث هو، أو انتخاب رئيس بنصاب النصف الزائد واحداً، وإن كلاً من هذه الخيارات يستدرج الآخر إلى تعميم الفوضى في البلاد».