strong>كامل جابر
ليست الغندورية بلدة عادية في الجنوب اللبناني. موقعها الجغرافي جعل منها الممرّ الإجباري لأي محاولة اجتياح برّي يقوم بها الإسرائيليون. وكما كان المقاومون بالمرصاد للعدو في مارون الراس وبنت جبيل وعيتا الشعب و... كانوا كذلك في الغندورية التي تحوّلت إلى مقبرة حقيقية للجنود الإسرائيليين ودباباتهم قبل ساعات معدودة من سريان وقف إطلاق النار. هنا بعض تفاصيل مواجهات الغندورية يرويها ثلاثة مقاومين شاركوا في هذه الملحمة


لم يقم جنود العدو الإسرائيلي بأي خطوة عدوانية، أو أي اجتياح محدود أو واسع ضد لبنان، من دون استخدام «المعبر الضروري» بين وادي الحجير والغندورية، لكونه المعبر الإلزامي الوحيد الذي يسهّل عملية الوصول إلى منطقة صور وقراها وجنوبي نهر الليطاني.
لقد استفاد العدو من هذا المعبر في الاجتياحين عامي 1978 و1982، وفي اجتياح الستة أيام عام 1986. وفي كلّ مرة كانت البلدة المتواضعة، الغندورية، تدفع الثمن الباهظ: ليس أقل من تدمير كامل. لذلك كان من الطبيعي أن يكون شباب المنطقة في حالة استنفار، لأن أيّ مغامرة اجتياح جديد لجنوبي نهر الليطاني، لا بد أن تمرّ عبر الغندورية ووادي الحجير، فكان الاستعداد نفسياً وعملياً، في منطقة عسكرية بامتياز أسهم فيها خلو الساحة من المدنيين الذين نزحوا تباعاً بعدما تبيّن أن الحرب ستطول. لكن حالة الاستنفار التي سادت منذ بدء الحرب، لم تتحوّل إلى مواجهة عسكرية مباشرة إلا قبل يومين من نهاية العدوان وتوقفه.
9 آب: بداية الهجومفي اليوم التالي، 10 آب، رُصِدَت جرافة إسرائيلية من نوع D10 مع نحو 18 جندياً إسرائيلياً في منطقة وادي الحجير، وتحديداً في «بستان جميل». مباشرة قصفت هذه القوة بالأسلحة الصاروخية والمدفعية، ما اضطرها إلى التراجع والانكفاء نحو خلة «براك» المعروفة بخلة
«الطافورة».
بعدها «رفعنا وتيرة الاستنفار بين قواتنا، إن كان عبر الكمائن للمشاة الاستشهاديين، أو من خلال الأسلحة المضادة للدروع والصواريخ، فضلاً عن إقفال جميع الممرّات الإجبارية المؤدية إلى الغندورية، بالعبوات الناسفة الضخمة». قرابة العاشرة من صباح الجمعة 11 آب رصد المقاومون ثلاث دبابات من نوع ميركافا 4 «نجمة إسرائيل» وجرافة D10، تتقدم مجدداً إلى بستان جميل «فاستهدفناها بصواريخ مضادة للدروع واشتعلت النيران فيها جميعاً».
استفاد المقاومون في الغندورية الذين ظلّوا على اتصال غير منقطع بالقيادة، من مراقبة حركة الإسرائيليين على الجبهة، وكيف يبدّلون طرق عملهم، وخصوصاً بعد مواجهات مارون الراس وبنت جبيل وعيتا الشعب. يشرح لنا المقاومون:
«دفع الإسرائيليون من البرّ فرقة المدرعات 162، معزّزة باللواء المدرع الخاص 401 (لجام الفولاذ)، وفي مقدمة هذا اللواء الكتيبة التاسعة الخاصة وجميع دباباتها من نوع ميركافا 4، وفي الطليعة السريّة L. أما من الجو، فأنزلت القوات الخاصة كتيبتين من القوات المجوقلة الخاصة من لواء النحال ومن لواء غولاني. وفي أثناء المواجهة عزّزت بكتيبة مشاة خاصة من وادي الحجير، طبعاً، مع دعم مجموعة من ضد الدروع فضلاً عن سلاح الجو وسلاح المدفعية».
أما استعداد المقاومة فتمثل بتعزيز عدة مجموعات مزودة بمختلف الأسلحة الصاروخية والمدفعية: ضد الدروع، هندسة، مشاة، وقوات خاصة.
ـــــ المعبر الضروري في «خلة عين عديب» كان مزروعاً بعبوات ضخمة مضادة للدبابات.
ـــــ تمركز عدد من وحدات الصواريخ المضادة الدروع.
ــ تمركز كمائن المشاة في الغندورية وأطرافها، وإقفال جميع المناطق المحتملة للتقدم الإسرائيلي نحوها.
قصف الإسرائيليون الغندورية من عصر الجمعة 11 آب وحتى المغرب بشكل عنيف مستخدمين المدفعية الثقيلة وراجمات «دومليرزر» التي تطلق دفعة واحدة 12 صاروخاً من عيار 227 ملم، فضلاً عن غارات للطيران الحربي «كلّ هذا كان يؤكد لنا أن الإسرائيليين يحاولون الدخول إلى الغندورية، كانت معنوياتنا مرتفعة جداً لأننا مستعدون للمواجهة التي ننتظرها منذ زمن».
عند الساعة التاسعة ليلاً، بدأت أعداد كثيفة من مروحيات النقل، على ارتفاع منخفض جداً، تحلق فوق الغندورية وجوارها (فرون، صريفا، برج قلويه، وادي الحجير). «فُسّرت هذه الحركة بأن الإنزال واقع لا محالة بنسبة 95 بالمئة. ناور الإسرائيليون لإرباكنا في تحديد موقع الانزال. كنا نراقب جميع المحاور والمناطق ونجمع المعلومات، فتكونت عندنا صورة أكيدة عن أن الإنزال بدأ من «خلة الطويري» ما بين فرون والغندورية، أي الشمال الغربي. أطلق الإسرائيليون على حملتهم اسم عملية إعادة الاعتبار للجيش الإسرائيلي، والمهلة المقررة 60 ساعة حتى يصل إلى منطقة القاسمية. كان الهدف من إنزال هذه القوة المجوقلة الجوية ضرب مجموعات المشاة والكمائن والمنصات المضادة للدروع، وبالتالي تأمين مرور الفرقة 162 والدبابات من وادي الحجير».
المدى القاتل
ويذكّر «حاتم» بالتكتيك الذي أعلنه الإسرائيليون «من عدم سلوك القرى، كما كان يريد حزب الله، لكن اضطررنا في بلدة الغندورية إلى دخولها». ويتابع: «عندما تأكدنا من الإنزال، تعاملنا معه وفق خطة الكمائن المحكمة، قواتنا المنتشرة رفعت من الاستعداد وغيرت انتشارها بحسب التهديد الطارئ، وبتنا ننتظر الاشتباك».
الثانية عشرة تماماً، منتصف الليل، ساد هدوء تام وصار يسمع بوضوح تحليق الطائرة MK من دون طيار والطيران الحربي المعادي. «تأكد لنا موضوع التسلل الذي بدأه جنود العدو. كل القوات على الأرض كانت مستعدة بشكل كامل. الواحدة من فجر السبت (12 آب)، تقدمت المجموعات باتجاه أحد الكمائن، طرف المنيّر، ويبعد أقل من 500 متر، تأكدنا مئة بالمئة مروره من هنا (يبدو من خلال الوصف أن المقاومين اختاروا أن يكونوا بين البيوت التي استبعدها الجيش الإسرائيلي من قصفه التمهيدي، ما أوقعه بالشرك).
في هذه اللحظات، كانت الأوامر معطاة لجميع الكمائن بالرماية المباشرة، من دون الرجوع إلى القيادة، بمجرد وصول القوة إلى المدى القاتل. المجموعة كانت بعيدة نحو عشرين متراً، فتحنا النيران عليها بتفجير نحو 4 عبوات مشبوكة ضد الأفراد، وأعقب ذلك فتح النار على مسافة عشرة أمتار أو عشرين، تحت نداء «الله أكبر، يا زهراء» بعد فتح الأجهزة اللاسلكية. أصيب الإسرائيليون بالصدمة والذهول! وسهل لنا قرار وزير الدفاع الإسرائيلي برفع عديد الوحدة من المشاة إلى مئة جندي لاعتقاده أن العديد الكبير قد يقلق ويرعب الخصم، في اصطيادهم وإيقاع خسائر كبيرة في صفوفهم».
تمر 25 دقيقة من دون رد الإسرائيليين الذين صار يسمع صراخهم وعويلهم ونداء «كاديما». تمت مساندة هذه القوة بوحدة مشاة أخرى من الغرب، الاشتباك مستمر، المقاومة تعزز قوة الاشتباك. «أبلغنا القيادة بعدم رد العدو، ووجدناه شيئاً عادياً، إذ إن صراخ الجنود المصابين وعويلهم، أكد لنا وقوعهم في الفخّ. بعد الاشتباك الأول المحدد بـ25 دقيقة، فتح الإسرائيليون النيران بواسطة المدفعية والصواريخ على نقاط التأمين الإسرائيلية (أطراف الغندورية، محلة المنيّر ووادي الحجير)».
ويتابع: «حاول الشهيد شادي عباس الدخول إلى البيت الذي لجأ إليه الإسرائيليون لأسر أحد الجنود، بيد أن الأمر كان فيه مخاطرة من أن يقع هو في الأسر، فتراجع. استمرّت الاشتباكات حتى الرابعة والنصف. الإسرائيليون مربكون، نطاردههم بالسلاح ولا يردون، بدأوا يرمون القنابل الدخانية حتى يضللونا، فأظهر نور القمر الجنود على صورة «نيكاتيف» ما سهل اصطيادهم، ثم بدأ الضوء ينبلج، في وقت وصل عديد الإسرائيليين في البلدة إلى نحو 800 جندي اختبأ معظمهم في بيوت البلدة. وكان سقط لنا حتى الساعة أربعة شهداء. عزّزنا قواتنا في الغندورية وبتنا أكثر تصميماً على تلقينهم درساً لا ينسى وتحويل البلدة إلى مقبرة للجنود».
مجزرة الدبابات
مرحلة الاشتباك الثانية بدأت عند الخامسة والنصف فجراً واستمرّت حتى الواحدة والنصف بعد الظهر. تقصف طائرة MK في محيط الجنود الإسرائيليين الذين سيطروا على ثمانية من البيوت المشرفة على البلدة وعلى الممرّ المتوقع لعبور الدبابات «دخولهم إلى البيوت كان فرصة سمحت لنا بقصفهم وهم فيها بالأسلحة الصاروخية المباشرة والهاونبعد الواحدة والنصف، بدأت طلائع الدبابات تتحرك باتجاه الغندورية، لتقع في الكمين القاتل. أتى دور العبوات والعتاد المضاد للدروع. الدبابة الأولى في السرية L من الكتيبة التاسعة، فُجِّرت بعبوة ناسفة كبيرة فاحترقت كلياً وقُتل أفراد طاقمها الأربعة بحسب اعترافهم. الدبابة التي خلّفوها لم تعد قادرة على العبور بعدما أقفلت الدبابة المستهدفة محور التقدم بأكمله عدة ساعات (يقع بين تلال وخنادق ضيقة). حاولوا إيجاد طريق التفافية قرب العبوة، فتحت الطريق وما أن حاولت الدبابات التقدّم حتى تفجرت العبوة الثانية، ما أربك العدو وجعله يحسب هذه المنطقة مقفلة. ثم كانت عبوة ثالثة في موقع آخر، وكل الدبابات صارت «عالقة»، من وادي هونين قرب مركبا حتى الغندورية، فوقعت في مرمى الصواريخ المضادة للدروع، لتخلق عشوائية في صفوف هذه الدبابات وطواقمها، استمرّت إلى اليوم التالي، الأحد في 13 /08/2006، قبل يوم من موعد وقف النار».
بعدها تقطّع القصف المدفعي والصاروخي حتى فجر الاثنين، حاول الإسرائيليون تبديل طرقهم الترابية واستخدام الطرق المعبدة، ظناً منهم أنها آمنة من العبوات، لكن الدبابات قوبلت بصواريخ ضد الدروع، فانكفأت مجدّداً إلى الطرق الترابية. واصطدمت محاولة تقدم باتجاه المنيّر بتفجير عبوة، فتراجع التقدّم. توجهت قوة أخرى نحو فرون لتؤمن التقدّم الشرقي، استهدفت بعبوة أخرى فتوقف الأمر، بانتظار ساعة الصفر لوقف إطلاق النار.
اعترف الإسرائيليون بسقوط 16 جندياً وعدد كبير من الجرحى، وسجل المقاومون سقوط أكثر من ذلك، وتدمير وإعطاب نحو 34 دبابة بين الغندورية ووادي الحجير. وقد سقط للمقاومة ثمانية شهداء، منهم أربعة من أبناء الغندورية هم: فادي أحمد عباس وشقيقه شادي، حسن عبد مرعي، وعماد حسين قدوح.
بعد ثلاثة أيام خرج الإسرائيليون من بعض بيوت الغندورية يلملمون الهزيمة وأشلاء الجنود، أمام أعين المقاومين، تفصل بينهما مفاعيل القرار 1701 الساري التنفيذ، فيما لم يفلحوا بلملمة مذبحة دبابات «نجمة إسرائيل» التي تحوّلت في وادي الحجير إلى خردة لتجار المعادن اللبنانيين.

حدث في 3 آب
أعلن الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله للمرة الأولى معادلة استهداف تل أبيب إذا استُهدفت العاصمة اللبنانية بيروت، وقال في رسالة متلفزة: «قصفنا الصاروخي هو ردة فعل على استهداف المدنيين. اذا تعرضت بيروت للقصف فسنقصف تل أبيب. (...) نحن التزمنا بطريقة صارمة وقف إطلاق الصواريخ لمدة 48 ساعة لأسباب إنسانية بحتة فسّرها الاسرائيليون تفسيرات شتى وجاءت وقائع الأمس الصاروخية بمثابة فضيحة لأولمرت وبيرتس وحالوتس بعد الوعود التي أطلقوها بأنهم نجحوا في تدمير كامل البنية التحتية للحزب».
وكانت المقاومة أمطرت شمال اسرائيل بما يزيد على ثلاثمئة صاروخ بينها نحو 150 صاروخاً انطلقت دفعة واحدة بلا توقف خلال أقل من ستين دقيقة، وكان وقعها على القيادتين العسكرية والسياسية في تل أبيب أقسى مما كان عليه في الشمال الاسرائيلي حيث سقط ثمانية قتلى وهو أكبر عدد من القتلى منذ استهداف محطة قطارات حيفا للمرة الأولى في الثامن عشر من
تموز.
وأعلن الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز أنه أمر بسحب سفير بلاده لدى إسرائيل، بسبب ما وصفه بـ«الإبادة» التي ترتكبها في لبنان، وهو أمر لم تقدر عليه الحكومات العربية. وشدد رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة على الوقف الفوري وغير المشروط لوقف النار، وقال إنه بعد تحرير الأرض المحتلة واسترجاع الأسرى لن يعود هناك مبرر لسلاح «حزب الله» وسيصبح حزباً سياسياً.