strong>إبراهيم الأمين
  • كيف انتقل الحلّ من سلّة واحدة إلى مرحلتين... إلى القرار 1701؟

  • مضى عام على عدوان إسرائيل في تموز عام 2006، وحتى اليوم لا يزال طرفا المعادلة الداخلية يتبادلان الاتهامات حول المسؤولية السياسية عن الأخطاء التي أفاد منها العدو مباشرة، أو من خلال وكيله الدبلوماسي الأميركي. هناك الكثير من المواقف مقابل القليل من المعطيات والوقائع عمّا دار في الغرف المغلقة، وخصوصاً ما يتصل بالموقف الأميركي وتسلسله التراجعي، وكذلك حال موقف الرئيس فؤاد السنيورة بما يمثّله في تلك اللحظة من موقع سياسي ورسمي

    في 30 تموز، استفاق الجميع في بيروت على أنباء مجرزة قانا الثانية. كانت عشرات الجثث لا تزال بين أنقاض بيوت مختلفة في الجنوب. وأتت مجزرة قانا الثانية لتفاقم الضغط الإنساني الهائل الذي يعيشه اللبنانيون. قامت تظاهرة أمام مقر الأمم المتحدة، وبدأت بالتحوّل الى العنف حين وصلت أنباء المجزرة. وكان على بري وحزب الله ممثَّلاً بنوابه مناشدة المتظاهرين عدم استخدام العنف، كما تدخل نواب حزب الله مباشرة لتهدئة الموقف.
    طلب بري من مساعديه ترتيب انتقاله سريعاً الى السرايا الكبيرة. اتصل برئيس الحكومة وقال له: انتظرني سوف أكون عندك خلال دقائق. وعندما وصل إليه، قال له: اسمع، لن يكون هناك من يرحّب بعودة رايس الى بيروت، وما حصل اليوم يفوق كل قدرة على التحمل. الشارع يغلي والمهجرون سوف يخرجون عن أي هدوء إذا جاءت رايس الى بيروت الآن. وأنا أبلغك بأن موقفي وما يمثله في هذه اللحظة حاسم لجهة أن التفاوض قد جمّد وهو ممنوع حتى يصار الى إعلان وقف فوري لإطلاق النار.
    بدا السنيورة متأثّراً بالأنباء الواردة من الجنوب. وافق بري على صعوبة الوضع وعلى أولوية وقف إطلاق النار. وطلب الى معاونيه ترتيب تواصل هاتفي سريع مع رايس، وإبلاغ السفير الأميركي في بيروت بأن زيارتها الى بيروت لم تعد مستحبة الآن. وبعد قليل، نقلت شاشات الفضائيات صورة المؤتمر الصحافي لبري والسنيورة، وأعلن كلاهما أن أي أمر خارج وقف إطلاق النار غير مطروح حالياً، فيما أكّد برّي أنّ المطلوب «وقف إطلاق نار فوري وغير مشروط، وعدم إجراء أية محادثات قبل ذلك، وتشكيل لجنة للتحقيق في المجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ومنها مجزرة قانا اليوم». وأعلن أنه «بعد ما حصل، فإنّ شروط تبادل الأسرى قد تغيّرت، دون أن يكشف النقاب عن هذه الشروط».
    وقال بري «عندما أتت السيدة رايس الى بيروت المرة الماضية، قلت لها إن وقف إطلاق نار فورياً هو الذي يجدي وليس السلة الواحدة التي تحملينها، وهذا لا يعني أننا نحن ضد أي بحث سياسي، على العكس نحن منفتحون على كل بحث سياسي، ولكن تحت النار وتحت ضغط النار، أخشى المجازر. هذا الكلام هو ما قلته لها وكررته اليوم، وها هو قد حصل».
    ذاك المساء، عقد مجلس الوزراء جلسة استثنائية برئاسة رئيس الجمهورية، وبحث، إضافة الى موضوع المجزرة، مسائل حياتية طارئة.
    في اليوم التالي على المجزرة، ومع قرار أسفٍ ضعيف من مجلس الأمن الدولي كردّة فعل وحيدة على ما حصل، يصل وزير خارجية فرنسا فيليب دوست بلازي للمرّة الثالثة خلال الحرب الى لبنان، ويلتقي بري والسنيورة ووزير الخارجية اللبناني فوزي صلوخ.

    ولش وحلّ على مرحلتين

    في الرابع من آب، يعقد بري والسنيورة اجتماعاً في عين التينة. وبعد إلغاء زيارة رايس، قرّرت الأخيرة إيفاد مساعدها ولش لمتابعة البحث. يصل الأخير على عجل ويلتقي السنيورة في السرايا، ويبحث معه سريعاً الأفكار الخاصة بقرار جديد عن مجلس الأمن الدولي لتنظيم الأمور على الحدود بين لبنان وإسرائيل. وأبلغه بأن الأفضل أن يكون القرار تحت الفصل السابع، وأن يتم ذلك في إطار وضعية جديدة للقوات الدولية بحيث تعطى صلاحيات أوسع تمكّنها من نزع سلاح المقاومة ومن منع إسرائيل من ارتكاب عدوان جديد على لبنان. يسمع ولش من السنيورة الكلام نفسه عن ضرورة إنجاز شيء ما في مزارع شبعا حتى يتم جرّ الرئيس بري الى هذا الموقف، وإلا فإن الأمور تتطلب بحثاً مختلفاً. يرفض ولش موضوع شبعا: إسرائيل لن تقدم على هذه الخطوة الآن، هل تعتقدون أنها ستقدّم هذه المزارع هدية لحسن نصر الله؟!.
    عند الحادية عشرة والنصف ظهراً، ينتقل ولش ومعه السفير الأميركي جيفري فيلتمان الى عين التينة. ويفتتح اللقاء مع بري قائلاً: لقد أصبح من الضروري التوصل سريعاً الى وقف فوري لإطلاق النار. ولنعمل على حل كل المشاكل، وفي ذلك مصلحة للبنان ولإسرائيل. ويجب ألا تُترك الامور مفتوحة هكذا من دون حل. وبعدما فكرنا في كل شيء، نرى أنه يمكن البحث في حل على مرحلتين: الأولى، يتم خلالها وقف لإطلاق النار، وبقاء أمور الجبهة على حالها. والثانية، يتم خلالها الاتفاق على كل المبادئ بالنسبة إلى مستقبل عمل قوات الطوارئ الدولية وبقية الامور، على أن يتم الحل في مدة أقصاها أسبوعكان ولش يتحدث وفي خلفية الصورة تجديد مجلس الأمن الدولي لشهر واحد لقوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان، وهي أقصر مدة يعطيها المجلس الدولي لهذه القوة منذ إنشائها عام 1978.
    يسأل بري ضيفه ولش: وماذا عن الأسيرين، لقد أقامت إسرائيل الدنيا ولم تقعدها من أجلهما؟
    ولش: هذا الأمر غير وارد الآن.
    بري: حسناً، وماذا عن مزارع شبعا؟
    ولش: إسرائيل لا تريد القيام بأي شيء هناك، وأقول لك صراحة، لن تقدم إسرائيل على أي خطوة تعتبر بمثابة انتصار لحزب الله.
    بري: أعرف أن الأمور صعبة، ولكن تذكر أنك كنت هنا مع السيدة رايس قبل مدة، هل تذكر على ماذا اختلفنا؟ كنت أقول لها بحلّ على مرحلتين، وكانت هي تقول بالسلة الواحدة. وأصررتم على أنّكم اتّفقتم مع السنيورة على سلّة واحدة. ثم بعثتم لي بأن مزارع شبعا ضمن هذا الحل، هل تشرح لي من فضلك ما الذي حصل؟
    ولش: معك حق في ما تقوله، ولكن إسرائيل غير موافقة على هذه الصيغة. هي لن تترك مزارع شبعا لأنّ في ذلك انتصاراً واضحاً لحزب الله.
    بري: اسمح لي بأن اقول لك إنّني لا أصدّق أنّ في إسرائيل من يجرؤ على قول لا لكم. واسمح لي أيضاً بأن أوضح لك أمراً مهماً: أنا هنا أقوم بدورين، الأول بصفتي رئيساً لحركة أمل الداعمة لحزب الله والمنخرطة معه في المعركة ضد قوات الاحتلال، والثاني دور المفاوض باسم المقاومة. وأنا أريد منك أن تقنعني قبل أن أتفاوض مع الحزب ونصل الى شيء.
    ولش: ماذا تقصد بقولك هذا؟
    بري: أقصد أنه لو خرج السيد حسن نصر الله الآن وقال أو كتب بخط يده إنه غير مهتم الآن بمزارع شبعا، فأنا أقول له: لا. استعدّ لأنّ علينا معركة تحريرها بالقوّة. وأنا أقول لك يا سيد ولش، إنّه لا مجال للتساهل في هذا الموضوع، اذهب وفاوض إسرائيل وأقنعها بأن ملف المزارع هو من ضمن الحل الشامل، وبعدها نواصل الحديث.
    ولش: نحن لدينا وجهة بهذا الشأن مثل أن تبقى الآن تحت سيطرة إسرائيل، ونعد بأن الأمين العام للأمم المتحدة يباشر مهمة ترسيمها وتحديدها، وبعدها نصل الى قرار.
    يبدأ بري بالتوتر، ويظهر الأمر عليه، ويقف مراراً خلال المقابلة ويتحدث مع ضيفه بكلمات مختصرة.
    فجأة قال ولش بصوت مرتفع: لنعمل الآن على وقف فوري لإطلاق النار. وهذا أفضل، وعندها يظل كل من الطرفين في مواقعه الحالية. وخلال أقل من اسبوع، نجهز قوة دولية تتولى الانتشار جنوباً.
    بري: هل تعرف ماذا يعني بقاء المتواجهين لأسبوع في أرض واحدة، انك كمن يضع البنزين قرب النار. ثم عن أي قوات دولية تتحدث؟
    ولش: نحن ندرس صيغة جديدة، نغيّر اسمها ومهامها وعديدها. وقد اتفقت مع الرئيس السنيورة على أن يكون قرار مجلس الامن بتشكيلها مندرجاً تحت الفصل السابع.
    يدهش بري ويسأل: ما الذي تقوله؟ اسمع، من جانبنا ليس هناك إلا وقف شامل لإطلاق النار، وانسحاب فوري لقوات الاحتلال الى خلف خط 12 تموز، وعودة فورية لجميع النازحين الى بيوتهم، ثم يتولّى الجيش اللبناني الانتشار ويمكن تعزيز قوات اليونيفيل كما هي، بنفس الاسم وبنفس الصلاحيات. ولا قرار تحت الفصل السابع.
    ولش: حسناً، هناك حل، ليس الفصل السابع بل 6,9، وهو أمر يوافق عليه السنيورة أيضاً. وقد قبل بكل التعديلات المقترحة على عمل القوة الدولية جنوبي الليطاني.
    بري: لا موافقة من قبلنا.
    خرج ولش غاضباً، وصار يتحدث مع الذين التقاهم من دبلوماسيين بتوتّر. وكان يعمد الى استخدام لغة التهديد، برغم أن أحد أعضاء الوفد المرافق كان يقدم له دورياً تقارير مصدرها السفارة الاميركية في تل أبيب ووزارة الخارجية في واشنطن، وفيها الأنباء غير الجيدة والتعليمات الواضحة: في إسرائيل يريدون وقفاً لإطلاق النار فقط، ولا تأتِ على ذكر أي شيء آخر. فأبلغ السنيورة وفريقه بالتوقّف عن المطالبة بالحل الشامل. «لا مجال لحل شامل، وليتوقف رئيس الحكومة عن المطالبة بدعمه لتولي إدارة المفاوضات حول الاسرى، لا أحد يريد التحدث بهذا الموضوع الآن، المطلوب فقط وقف فوري لإطلاق النار من أجل أن تعيد إسرائيل ترتيب أمورها الميدانية، هي تحتاج الى وقت».

    توصيات إلى السنيورة

    منعاً لأيّ التباسات، بادر ولش الى إعداد لائحة توصيات ـــــ مطالب وتقديمها الى الرئيس السنيورة، وفيها:
    1ـــــ إعادة النظر في تسليح الجيش اللبناني وتعديل النصوص التي تقول بأن إسرائيل هي العدو. وبالتالي إعادة النظر في هيكلية الجيش وفي تركيبته بما في ذلك إعادة تنظيم جهازه الاستخباراتي بمساعدة «المجتمع الدولي» الممثل بالقوة الدولية المزمع تشكيلها2ـــــ التعهد بتدريب ضباط الجيش في بلاد حليفة للولايات المتحدة الاميركية مثل تركيا والأردن ومصر، وإبعاد عدد من الضباط المحسوبين على سوريا وعلى حزب الله و«تنظيف» الأجهزة الأمنية والعسكرية من العناصر القريبة من الحزب أو الموالية له.
    3ـــــ تقديم مساعدات تقنية وعسكرية، من بينها طائرات مروحية جديدة ومدرعات حديثة، تتيح له القيام بأعمال ردعية ضد أي قوة محلية من شأنها تهديد قوته، ومنحه صلاحيات التوسع في أي مكان تحت إشراف القوة الدولية.
    4ـــــ تكليف فرق أمنية وعسكرية وخبراء من القوة الدولية تولي المراقبة والتثبت على مداخل مطار بيروت الدولي ومرفأ بيروت وبقية المرافق البرية والبحرية، ونشر قوة دولية عند كل المعابر البرية مع سوريا من الجنوب إلى الشمال، والسماح لهذه الفرق بالتأكد من أسماء المسافرين الآتين وطريقة وصولهم إلى لبنان، و تفتيش كل البضائع والأجهزة الإلكترونية العائدة إلى شركات خاصة.
    5ـــــ قيام تعاون أمني عسكري بين لبنان ودول حلف الأطلسي بناءً على طلب من الحكومة اللبنانية لتعزيز قدرات قوى أمنية أخرى غير الجيش اللبناني، مثل قوى الأمن الداخلي وأجهزة أخرى تتبع لوزارة الداخلية أو لرئاسة الحكومة.

    مشروع القرار الدولي

    في الخامس من آب، بدأ الصدى السلبي للاتفاق الأولي الاميركي الفرنسي حول مشروع قرار مجلس الأمن بالوصول الى بيروت. وزير الخارجية بالوكالة طارق متري الذي يترأس الوفد اللبناني هناك يتحدث عن اتفاق «تفاعلي» يمكن تغييره وهو مطروح للنقاش. وفي السادس من آب، يعلن الرئيس بري «رفض لبنان لمشروع القرار»، مؤكداً أنه لمصلحة إسرائيل لا لبنان، ويعلن أنه أصبح «في حلّ من موضوع الأسيرين، فأنا كنت مفوّضاً بهذا الموضوع، وهم أعفوني منه ولم تعد لي علاقة به».
    وشملت اتصالات رئيس الوزراء، من ناحيته، رايس وبلير وكوفي أنان والمفوّض الأعلى للسياسة الخارجية الاوروبية خافيير سولانا وعدداً آخر من الوزراء الغربيين، معرباً عن رفض لبنان لمشروع القرار الأميركي الفرنسي، ومرسلاً إليهم اقتراح لبنان البديل.
    في السابع من آب، يلتقي وزراء الخارجية العرب في بيروت، ويلقي السنيورة كلمة لبنان أمام اللقاء الطارئ للوزراء العرب، ويبكي مرتين خلال اللقاء، ويقر مجلس الوزراء يومها إرسال 15 ألف جندي لبناني الى الجنوب، بالتزامن مع انسحاب قوات الاحتلال الى خلف الخط الأزرق، ويعلن الجيش اللبناني استدعاء الاحتياط من قواته.
    قدّم الوزير متري لممثلي الدول الأعضاء في نيويورك مقترحات لبنانية تقضي بإدخال تعديلات وصفت بأنها «جوهرية» تركز على أمور ثلاثة: الأول، يدعو الى وقف شامل لا جزئي لإطلاق النار على أساس انسحاب إسرائيلي كامل حتى الخط الازرق وفك الحصار الجوي والبحري والبري عن لبنان وتأمين عودة سريعة وآمنة لكل النازحين. والثاني، يطلب توسيع عمل القوة الدولية الحالية وعدم ربط المشروع الشامل بالقوة المتعددة الجنسيات، وبالتالي عدم اللجوء الى الفصل السابع. أما الثالث، فيتعلق بالعمل سريعاً على إنهاء نقاط الخلاف المتمثلة بإتمام عملية تبادل للأسرى وتسليم مزارع شبعا الى القوة الدولية. في المقابل، يتعهد لبنان نشراً سريعاً لقوة كبيرة من الجيش اللبناني على طول الحدود، وتقديم تسهيلات للقوة الدولية ومنع أي وجود مسلح في هذه المنطقةورغم أن الحكومة أرادت من خلال هذه الخطوة تأكيد التزامها البنود السبعة التي أعلنها الرئيس فؤاد السنيورة في روما، والتي حظيت لاحقاً بإجماع مجلس الوزراء ودعم القوى السياسية الأخرى، إلا أن المعلومات التي وردت الى المراجع الرسمية لا تشير الى تقدم في المساعي الدولية، وإن كانت هناك مشاريع تعديلات على الشكل الآتي: الدعوة الى وقف شامل لإطلاق النار بحيث تتوقف كل أنواع الاعمال الحربية، بما في ذلك الهجمات المتبادلة بين مجموعات المقاومة والقوات الإسرائيلية. على أن يتم بعدها، خلال عشرة أيام الى أسبوعين، نشر آلاف من الجنود اللبنانيين في خطوة تتزامن مع وصول قوة من ألفي جندي ينضمون الى قوات اليونيفيل تتولى تسلم المواقع التي احتلتها إسرائيل في هذه المنطقة وإلغاء أي نوع من الوجود المسلح في كل المنطقة التي ينتشر فيها الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل. ثم يصار في وقت لاحق، خلال مدة تمتد من شهر الى شهرين، إلى إنجاز «إنهاء الملفات العالقة» بما في ذلك ملف الاسرى ومزارع شبعا والقوة الدولية.
    وذكرت مصادر رسمية رفيعة المستوى أن هناك مرونة بارزة من جانب دول كثيرة في مجلس الأمن، ومن بينها فرنسا، إزاء هذا الأمر ولكن المعضلات تنحصر في الآتي: تريد إسرائيل إطلاقاً فورياً لسراح الجنديين الأسيرين وإعلاناً رسمياً بنزع سلاح المقاومة جنوبي نهر الليطاني، بينما يريد «حزب الله» انسحاباً فورياً وتاماً لقوات الاحتلال من المنطقة وعدم فتح ملف سلاحها على غير طاولة الحوار اللبناني وتوفير ضمانات كاملة بعودة كل نازح الى بيته.

    التمايز الأميركي ــ الفرنسي

    في هذه الأثناء، كانت المداولات في الأمم المتحدة تظهر نوعاً من التمايز بين فرنسا والولايات المتحدة حول طريقة التعامل مع البنود الرئيسية التي يجري العمل عليها. وتبيّن أنّ فرنسا عرضت الحلّ من خلال قرارين، الأوّل يخضع للفصل السادس فيما يخضع الآخر، الذي يطرح بعد مهلة تمتد من 30 الى 60 يوماً، للفصل السابع، وذلك مقابل عرض الولايات المتحدة لقرار واحد وفق الفصل السابع.
    لكن باريس وواشنطن رفضتا معاً طلب لبنان وقفاً فورياً وشاملاً لإطلاق النار، واتفقتا على وقف الأعمال العدائية مع تفصيل يقول إن القرار يشمل كل الأعمال الهجومية من قبل حزب الله ويشمل أيضاً الأعمال الهجومية الإسرائيلية، وهذا يعني إلزام اسرائيل وقف الغارات ما لم تتعرض لعدوان، بينما يمنع حزب الله من قصف الصواريخ وكذلك من مهاجمة قوات الاحتلال الاسرائيلية في لبنان.
    أما بشأن الانسحاب الاسرائيلي، فقالت الولايات المتحدة إنه يجري فوراً تعزيز قوات اليونيفيل التابعة للأمم المتحدة بنحو عشرين ألف جندي، ثم يصار الى نشرها مع وحدات من الجيش اللبناني، على أن يتم ذلك بالتوازي مع الانسحاب الإسرائيلي من دون تحديد مسبق للمدة الزمنية المفترضة لإنجاز هذه العملية.
    أمّا فرنسا فرأت أنه يجب الاستعانة بعديد قوات اليونيفيل الموجودة حالياً في لبنان وأن يُزاد عديدها وفقاً لهامش الصلاحيات الخاصة بالأمين العام للأمم المتحدة، على أن تبدأ سريعاً، وخلال فترة تزيد على أيام وتقلّ عن أسابيع، بتسلم المواقع من القوات الإسرائيلية التي يفترض بها العودة الى خلف الخط الأزرق. ويقوم الجيش اللبناني بنشر قواته في الوقت نفسه.
    وفي ما خص مزارع شبعا، قالت فرنسا بأن يبعث الأمين العام للأمم المتحدة، خلال فترة ثلاثين يوماً، رسالة الى الحكومة اللبنانية يعرض فيها مختلف الحلول القانونية لمزارع شبعا بما فيها الحل المقترح في البنود السبعة. أما الولايات المتحدة فتقول من جهتها بأن القرار يدعم إنهاء عملية ترسيم منطقة شبعا وتحديدها من دون الدخول في أي تفصيل.
    وحول عودة النازحين وفتح المرافق الحيوية، اتفق الطرفان على أن تقوم القوات الدولية بمساعدة السلطة على نشر قواتها وعلى توفير المساعدة الإنسانية لعودة النازحين، ولكن من دون تحديد أي مدة زمنية ومن دون ربط الخطوة بقرار وقف إطلاق النار.
    أما بالنسبة الى المطارات والمرافق والمعابر البرية والبحرية، فيقول الاقتراح الأميركي بأن تُفتح لأغراض مدنية بحتة وبشكل قابل للتحقق. وتعرض واشنطن تفصيلاً يقول بأنه يجب التدقيق في منع إدخال المواد والأشخاص وأي أنواع من الأمور التي تعتبر مساعدة للأعمال الإرهابية وأن تتولى القوات الدولية عملية التدقيق هذه. أما فرنسا فتقول بفتح هذه المرافق لأغراض مدنية من دون طلب بند التحققواتفق الطرفان على أن يصار الى إطلاق فوري وغير مشروط للأسيرين الاسرائيليين وعلى تشجيع الجهود وبشكل عاجل لتسوية موضوع السجناء اللبنانيين في السجون الاسرائيلية.
    وبشأن سلاح المقاومة، تقترح الولايات المتحدة ان يصار، خلال فترة ستة أشهر، الى إعادة تقويم أداء القوة الدولية وأن يصار الى إعادة بحث تسليحها وتأهيلها وتوسيع نطاق عملها بما يؤدي الى تحقيق مجموعة من العناصر المطلوبة لضمان الأمن، بما في ذلك نزع سلاح غير القوى اللبنانية في كل المنطقة التي تنتشر فيها، وتفكيك البنية العسكرية لغير الدولة اللبنانية. وأبدت فرنسا تحفظها عن هذه الخطوة.
    في هذه الفترة، التقى رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، ولمرّات ثلاث، السفير الأميركي في بيروت جيفري فيلتمان. وكانت هناك مشاورات مع الرئيس نبيه بري ومع الوزير محمد فنيش. وقد أبلغ لبنان الجانبين الأميركي والفرنسي رفضه أي مشروع قرار يبقي على قوات احتلال، لأن أعمال المقاومة ستتواصل ضدها.

    إيمييه ــ بري

    سعى السفير الفرنسي في بيروت برنارد إيمييه إبراز التمايز بين الفرنسيين والأميركيين في المقاربة لمسودة القرار 1701. وقبيل زيارة ولش للبنان، طلب السفير الفرنسي موعداً عاجلاً من بري قائلاً إنه يرغب في مقابلته قبل لقاء بري ولش. وفي هذه الأثناء، كان بري قد بعث برسالة الى الرئيس الفرنسي جاك شيراك، يدعوه فيها للتدخل، وتتضمّن إشارة الى ان ما يحصل هو حرب إبادة للشيعة في لبنان، وان فرنسا في حالة مشاهدة لما يحصل، وعدم تدخلها يحمّلها هي والمجتمع الدولي المسؤولية.
    قال إيمييه لبري إن شيراك وصلته الرسالة، وهو مدرك ان هناك صعوبات، ولذلك «نحن طرحنا تغييرات في نص القرار المقترح، وهي أن يُتّفق على مرحلتين: في الأولى، توقف الأعمال الحربية، وفي الثانية، يرسل الجيش الى الجنوب. ولن نشير الى الفصل السابع، ونبقي على الفصل السادس وتُعزّز اليونيفيل على هذا الأساس، ولكن لا بد من النقاش في آلياتها وأساليب عملها (قواعد الاشتباك)، ونعد ألا يكون هناك أية إشارة أو مقاربة لما يسمى ملف سلاح حزب الله».
    يشكر بري له هذه الطروحات ويسأله هل من الممكن ان نعلم أين أصبحت مزارع شبعا؟
    فيجيبه إيمييه أن «لا جديد، فلنؤجل هذا الموضوع، وخاصة أن لا استعداد اسرائيلياً للبحث الجدي فيه، ولنركز على بحث الفترة الفاصلة ما بين المرحلتين، وقف الأعمال الحربية والوقف النهائي لإطلاق النار».
    بري: حسناً، لنفترض أننا اخترنا 12 آب موعداً لوقف العمليات الحربية، وأنّ الجيش وقوات اليونيفيل الجديدة تنتشر في 20 آب، فماذا سيحصل في العشرين من آب؟
    إيمييه: من 12 الى 20، بحسب هذا التصور، يدخل الجيش اللبناني، وتصل طلائع اليونيفيل، وتقوم اسرائيل بالانسحاب من أماكن محددة ويحصل اختفاء للمظاهر المسلحة من جانب المقاومة، ثم يعلن وقف كامل ودائم لإطلاق النار.
    بري: حسناً، ما بين 12 و20 آب، قوات الاحتلال موجودة والمقاومة موجودة، وإذا حصل تواجه ما بينهما، سواء بادرت اسرائيل إلى عملية ضد المقاومة أو بادرت المقاومة إلى إطلاق النار على الاحتلال، فماذا سيحصل في هذه الحالة؟
    إيمييه: لا أعلم! ما هو اقتراحكم؟
    بري: أوّلاً، يجب ان أخبرك أن ما دام هناك قوات احتلال على الأراضي اللبنانية، فللمقاومة الحق بالقيام بعمليات ضد هذه القوات. وبالتالي، يبقى وقف الأعمال الحربية محصوراً بوقف قصف المدنيين. فلتتعهّد إسرائيل بوقف الطلعات الجوية والغارات، أتعهّد أنا بالمقابل باسم المقاومة بوقف الصواريخ على المدن والمستعمرات.
    إيمييه: هذه مسألة صعبة وقد تأخذ وقتاً، وأنا أنصحك بأن تطلب هذه الضمانات من ديفيد ولش.
    بري: ما أقترحه أنا هو العودة الى تفاهم نيسان 1996، ولكن أريد ان أسألك أين هي عودة المهجرين؟ لم تأت على ذكرها؟
    لا يجيب إيمييه وينتهي اللقاء.

    الحلّ المقبول من المقاومة

    مساء 9 آب 2007، حصل اجتماع خاص في عين التينة، تم خلاله التفاهم على بنود الحل المقبول من جانب المقاومة وأُبلغ الى الجانب الأميركي والى جهات أوروبية والى السنيورة أيضاً، وفيه:
    1 ـــــ يجري العمل منذ اللحظة بتفاهم نيسان عام 1996، والمقاومة مستعدة لوقف قصف العمق الاسرائيلي إذا توقفت الغارات الاسرائيلية والقصف على المدنيين في كل لبنان. يترافق ذلك مع تقديم ضمانات دولية كاملة بحماية المدنيين بعد عودتهم الى قراهم. واذا ما استمر وجود أي جندي اسرائيلي على الأراضي اللبنانية، فإن المقاومة سوف تضربه من دون توقف، ولتكن المواجهة محصورة عندها بين جهتين عسكريتين وليُحيّد المدنيون.
    2 ـــــ ينتشر الجيش اللبناني في كل المناطق التي يريدها. ولا مانع من تعزيز القوات الدولية وفق البناء نفسه لناحية التركيبة والمهمات والصلاحيات.
    3 ـــــ رفض استقبال أي قوة دولية أو أي جيش من أي دولة في العالم يأتي بناء على قرار من مجلس الأمن، ورفض كل ما يمكن أن يندرج في أي قرار يقوم وفق الفصل السابع.
    4 ـــــ لن يكون هناك منطقة منزوعة السلاح، لا جنوبي النهر ولا شماليه. هناك فقط أمر واحد وهو منع المظاهر المسلحة، وهو أمر محترم وقائم، لا في الجنوب بل في كل لبنان.
    في اليوم نفسه، يتّصل النائب سعد الحريري بالرئيس بري مرّتين: الأولى ظهراً، والثانية مساء، ويقول إن لديه اقتراحاً بأن يصدر قرار جديد عن مجلس الأمن تحت الفصل السابع، ولكن يكون هناك نقاش حول الصلاحيات الخاصة باستخدام القوة بقصد الدفاع عن النفس. فيرد عليه بري: لا مجال لمثل هذا الأمر، وأنت تعرف ان الفصل السادس يوفر للقوات الدولية حق الدفاع عن النفس.
    في الخارج، كانت الاتصالات تتسارع. مباحثات تجري من دون توقف بين إيران وقطر، وتواصل مع الرئيس بري. وزير خارجية قطر حمد بن جاسم يناقش اقتراحاً مع نظيره الإيراني منوشهر متكي. يرسل الأخير سفيره في بيروت محمد علي الشيباني الى رئيس المجلس، ويبلغه بأن الحريري يطلب من دولة الإمارات العربية التحدث مع قطر لأجل القبول بإقرار مجلس الأمن القرار تحت الفصل السابع. وينقل اقتراحاً بأن «يعلن كوفي أنان شفهياً أن عمل القوات الدولية سيكون تحت الفصل السابع». يرفض بري الأمر فوراً، ويلفت انتباه محدثه: إن كل ما يتلوه الأمين العام سوف يسجل في محضر الجلسة وهو له القوة نفسها.
    أما الاقتراح الآخر بشأن شبعا فيقضي بأن يتعهّد كوفي أنان في الجلسة نفسها بأن يعمل على إيجاد حل لمسألة شبعا ضمن حل عام. ويقول القطريون انهم اتصلوا بإسرائيل، وطلبوا منها الإجابة مباشرة عن هذا الاقتراح.

    ولش مجدّداً في بيروت

    في العاشر من آب، يزور دايفيد ولش بيروت مجدّداً حيث يلتقي رئيس الحكومة مرّتين بحضور السفير الأميركي فيلتمان. والتقى نبيه بري وفوزي صلوخ، وأكد أمام الإعلام «استغراب بلاده رفض لبنان مشروع القرار الأميركي الفرنسي». واكتفى بري بعد الزيارة بالقول «السيد ولش مزيّن بارع لقرار بشع».
    في اليوم نفسه، يصل رئيس الحكومة فؤاد السنيورة إلى عين التينة عند التاسعة مساء. يقدّم لبرّي موجزاً عن محادثاته مع رايس ومع وزير خارجية ألمانيا، وذلك بحضور السفيرين الأميركي والفرنسي. ويعلن تمسّكه بالبنود السبعة، وينقل تهديداً مبطّناً من رايس بأنّ المشكلة سوف تتوسّع إلى شمالي الليطاني وأنّه لا يوجد قرار سريع من مجلس الأمن الدولي.
    يعود ولش إلى لبنان في الوقت الذي لا يزال فيه رفع الأنقاض والبحث عن الجثث جاريين في منطقة الشياح بعدما أغارت الطائرات الحربية على أحد المباني مخلّفةً 56 شهيداً هناك. يبدأ بري بالتحدّث عن مجزرة الشياح، ويشرح له مدى صعوبة الأوضاع، وان الوقت ليس مناسباً لطرح مطالب سياسية، وان الجانب الاميركي لا يساعد في وقف إطلاق النار،
    فيجيب ولش ببرودة لافتة «كلما تقدمنا خطوة، تضعون العوائق والعراقيل».
    تظهر على الرئيس نبيه بري علامات الاستفزاز من هذا الموقف، ويقول غاضباً «ما هي العوائق؟ هل أطالبك بمزارع شبعا كما طالبت من قبلك رايس؟ وهي وافقت يومها في البداية وبحضورك، إلا أنك أجبتني أنك لا تريد أن تعطي نصراً لحزب الله بالانسحاب من شبعا»، فيؤكد ولش وجهته محاولاً احتواء غضب بري: «صحيح نحن لا نريد أن نعطي نصراً لحزب الله»، وبدوره يؤكد بري لولش «حزب الله ليس بحاجة الى تحرير شبعا اليوم لتحقيق النصر، لقد حقق الآن أكبر نصر في تاريخ المنطقة، وهذا ليس رأيي الشخصي فقط، بل هو رأي كل العالم العربي والإسلامي»، ويضيف بري «وعلى كل حال أنت لم تسمع ماذا تقول اسرائيل، وما ينشر في وسائل إعلام تل أبيب، وهي التسريبات بأنها لم تكن ترغب في الحرب البرية، بل إن الولايات المتحدة فرضت عليها هذه الحرب».
    يحاول هنا ولش ان يستعيد زمام المبادرة فيقول «أنت من عقّد لي مهمتي، ولكن دعنا ندخل في التفاصيل، لماذا لديكم موقف ضد إصدار قرار لمجلس الأمن تحت الفصل السابع؟»، يتهكّم بري بعد ان يظهر هدوءه: «لأنّكم أنتم ضد الفصل السادس»، فيسأل ولش: «وكيف يدافع عناصر قوات الطوارئ عن أنفسهم؟»، فيجيب بري بقليل من الاستفاضة «حق الدفاع عن النفس موجود في الفصل السادس، وبحسب معلوماتي أن فرنسا والدول الأخرى المشاركة في القوات الدولية، كما التي تريد المشاركة، يطالبون بالفصل السادس. فلماذا تتمسكون بموقف ملكي أكثر من الملك؟»،
    يحاول ولش الوصول الى تسوية ترضيه: «دعنا نصوّت مع الفصل السابع، ولكن من دون أن نأخذ بكل الصلاحيات التي يعطيها هذا الفصل. وأنا أعطيك وعداً بألا يكون في لبنان قوات دولية، ولكن قوات طوارئ دولية بشرط ان تكون تحت الفصل السابع»، ويضيف ولش «أنا أستغرب موقفك. كنتُ منذ قليل عند الرئيس السنيورة، ومباشرة قبل حضوري الى هنا، كان قد وافق على صيغة الفصل 6 فاصلة 9 (6,9)، أي أنه قريب جداً من الفصل السابع».
    ينتقل هنا بري الى طرح ما لديه: «أنا يا سيد ولش أعطيك التالي: تتوقف الأعمال الحربية في 12 آب، ويقرّ وقف دائم وتام لإطلاق النار، بحيث إنّ حزب الله لا يطلق الصواريخ ولا المدفعية ولا القنابل على اسرائيل، وبالمقابل لا تلجأ اسرائيل الى الطلعات الجوية ولا القصف البحري والمدفعي على كل المنشآت المدنية اللبنانية، واذا ما قام حزب الله أو أي طرف بالهجوم على قوات الاحتلال الاسرائيلية داخل لبنان، فإن اسرائيل لن تقوم برد على القرى أو المدنيين. أضف الى ذلك أننا نريد عودة المهجرين مباشرة الى منازلهم، حتى لو كانت هذه المنازل مدمرة»، فيقول ولش «هذه نقطة مهمة جداً».
    ويتابع بري «ودعني أضيف بموضوعية، إذا استغل الاسرائيلي الوقت، ولم نصل الى وقف دائم لإطلاق النار...»، فيقاطعه ولش «سأضطر إلى السفر الى اسرائيل؟»، فيتابع بري «إذا اعتبرت أنت أن هذا أمر موضوعي ومهم، فأنا أريد ضمانة من الولايات المتحدة، ومن رايس تحديداً، من أجل ضمان الانسحاب في الوقت المحدد».
    هنا يبدأ ولش بالتشاور مع فريقه المرافق، ومن ضمنه محامون، ويسحب أحد أعضاء الوفد المرافق لولش ورقة ويتلو نص تفاهم نيسان عام 1996، فيتدخل بري مؤكداً «ويطبق على الاتفاق أيضاً قصف البوارج الاسرائيلية».
    فيسأل ولش «وكيف يتم الأمر؟، فيجيب بري: «تكفيني اتفاقات الشرف»، فيحسم ولش موقفه قائلاً: «كي لا نخسر الوقت، وحتى لا نؤخر صدور القرار، تقوم رايس بعد صدور القرار الدولي بضمان الأمر وتفصيله على شكل تفاهم نيسان»، فيرتاح بري «جيد، انظروا في شأن هذا المخرج، وإذا وافقتم، فأنا المسؤول عن موقف حزب الله والمقاومة، وأذكرك بأن على رايس أن تعلن ما اتفقنا عليه».
    عند نهاية اللقاء، يخرج ولش ويعلن أمام الصحافيين التالي «كان الاجتماع صعباً ولكنه مثمر، وأكثر من جيد، تأخرنا لأننا دخلنا في النقاط الحساسة».

    ... ومن جديد

    في الحادي عشر من آب، يزور ولش الرئيس بري في عين التينة، يرافقه فيلتمان. ويقول بري بعد اللقاء «النقاش يمر بكل الدقائق الحساسة، وفي بعضها يحصل تقدم، ولكن عوّدتنا التجربة ألا نقول فول ليصير بالمكيول».
    يزور ولش أيضاً الرئيس السنيورة الذي يشير الى حصول تقدم بسيط جداً. ويعقد السنيورة اجتماعاً مع المنسق الأعلى للسياسة الخارجية والأمن المشترك في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا بحضور الوزير فوزي صلوخ. ويعود رئيس كتلة المستقبل سعد الحريري الى بيروت.
    في ذلك اليوم، يتبنى مجلس الأمن الدولي القرار الرقم 1701 بالإجماع. وفي 12 آب، يوافق مجلس الوزراء اللبناني بالإجماع على قرار مجلس الأمن الدولي، وكان السيد حسن نصر الله قد اعتبر في كلمة متلفزة أن القرار أتى غير منصف وغير عادل، وخاصة انه يحمّل لبنان المسؤولية وكأنه هو المعتدي، مضيفاً «نحن نتحفظ عن بنود القرار ونترك بحثها الى وقت لاحق».
    الاثنين، في 14 آب، يوجّه نبيه بري نداءً إلى النازحين يدعوهم فيه الى العودة الفورية الى ديارهم والثبات في أرضهم...!
    يتوقف إطلاق النار، لكن المعركة السياسية تفتح. يومها، كان نصر الله يتابع عودة النازحين الى منازلهم وقراهم. كان يسمع الناس تتحدث عن الحرب بفخر وعن انتصار المقاومة وصمودها، لكنه لم يكن يقدر على كتم غيظه: لقد كان هناك من تآمر علينا خلال الحرب، ولن نبقى في هذه الحكومة!




    وقائع اللقاء العاصف بين السنيورة ومعاون نصر الله في عين التينة

    كان الرئيس نبيه بري قد أبلغ الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أنّه ضاق ذرعاً بالتفاوض مع الرئيس فؤاد السنيورة، وأصرّ على أن يتولّى الحزب التفاوض مع الأخير مباشرة. لم يكن نصر الله ليقبل بهذه الصيغة، وأرسل مع معاونه السياسي الحاج حسين الخليل يطلب من الرئيس بري متابعة المهمة، لكن رئيس المجلس أصرّ، فقرّر حينها نصر الله إيفاد معاونه السياسي الحاج حسين الخليل للقاء السنيورة شرط أن يتم بحضور بري. قبل الأخير بالأمر، وجرى الإعداد للاجتماع من دون معرفة أحد، بما في ذلك السنيورة نفسه.
    يصل الخليل إلى عين التينة مستعداً للحوار مع السنيورة. تولّى بري الاتصال ودعاه الى تناول القهوة والتباحث. خلال عشر دقائق، وصل السنيورة برفقة مستشاره الدبلوماسي والسياسي محمد شطح. كان بري يجلس مع الخليل وحده في مكتبه. وهو كان لا يريد لأحد أن يدخل، حتى إنّه أقفل الباب من الداخل. ولدى وصول رئيس الحكومة الى قصر الرئاسة الثانية، اتّصل النائب سعد الحريري ببرّي من الخارج وفاوضه على أهمية الفصل السابع. لم يقدر مساعدو رئيس المجلس حتى إبلاغه عبر الهاتف بأنّ السنيورة قد وصل. اقترب الأخير من الباب وتولّى مرافق بري الطرق عليه. كان بري لا يزال في محادثته الهاتفية. فطلب من الخليل: لو سمحت، لا أريد قطع المكالمة، الرجاء فتح الباب.
    يقوم الخليل ويفتح الباب بطريقة تبقيه خلفه. دخل السنيورة وشطح، فأغلق الخليل الباب وأمسك بالسنيورة من كتفه، فجفل السنيورة وصرخ: أنت هنا؟
    بعد سلامات وقليل من العبوس، قبل بري أن يعتذر عن المكالمة وتوجّه الى السنيورة قائلاً: هذا الرجل هنا، وقد أرسله السيّد، فما هو المطلوب منهم؟
    ردّ السنيورة: نريد التكلّم في موضوع السلاح وموضوع القوات الدولية.
    فقال بري: ماذا؟
    فأجاب السنيورة: سوف يقوم الجيش بالانتشار جنوبي نهر الليطاني، وتقوم المقاومة بتسليم كامل سلاحها وعتادها هناك إليه. ثم تنتشر القوات الدولية بعد تعزيزها بقوات إضافية وتعطى المزيد من الصلاحيات، وعلى حزب الله القيام بعملية إخلاء كاملة، وتقديم خريطة للجيش بأماكن انتشار السلاح والمخازن، وبالتالي ننتهي من هذه المسألة ويكفي البلاد ما لحق بها من خراب ودمار.
    يصمت بري، ويتولى الخليل سؤال السنيورة: ما هذا الذي تطلبه، هل تعرف ان نزع السلاح هو ما يطالب به أولمرت. هل وصلت الأمور معكم الى هذه الدرجة. هذا الأمر لن يحصل، وقساوة الحرب وكل ما حصل لن يمنعنا من ان نتابع المعركة حتى النهاية. ما هو ممكن فقط، هو انتشار الجيش ولا مانع من تعزيز القوات الدولية، لكن وفق الفصل السادس، ونريد أن نعلم عن العديد الإضافي والدول التي ستشارك... ومن جانبنا لن يكون هناك أي مظاهر عسكرية أو مسلحة.
    السنيورة: أعلم ان تسليم سلاحكم أمر يحرجكم أمام جمهوركم، ولديّ اقتراح بحل مشرف. لماذا لا تضعون الأسلحة في مخازن محددة ويأخذها الجيش اللبناني، وبالتالي يظهر وكأن الجيش صادر أسلحة المقاومة، ولستم أنتم من سلّمها.
    فأجابه الخليل: يبدو أنني مضطر إلى الإيضاح لمرة أخيرة بأنّ سلاح المقاومة لن يمس بأي شكل.
    بعدما ارتفع الصوت وبدا الجو ثقيلاً، تدخّل بري متوجهاً بالكلام الى الحاج الخليل: طيّب، لماذا لا تتركون النقاط الحدودية وتخرجون منها نهائياً؟
    يصمت الخليل قليلاً ثم يقول: حسناً، نحن لا نمانع في هذا الأمر، على رغم ان هذه النقاط ليست مرئية من السكان ولا قريبة منهم، وهي حصراً بمواجهة المواقع الاسرائيلية، إلا أننا جاهزون لإخلائها، وعندها لن يبقى لنا أي مظهر مسلح في الجنوب.
    السنيورة: هذا ليس حلاً، فهو يعني إبقاء الأمور على حالها وسيزيد علينا الضغط الدولي، واسرائيل مستعدة لمواصلة الحرب وتوسيعها.
    فيعلو هنا صوت حسين الخليل: أنا لا أعرف مع من أتحدث، مع رئيس حكومة لبنان أم مع رئيس حكومة اسرائيل. أوّلاً، من أخبرك ان اسرائيل يمكنها التوسع في الحرب؟ فجيشها يصاب بنكسات يومية، والمبادرة ليست بيدها بل بيد المقاومة، ولدى قيادتها العسكرية الآن مشكلات كبيرة، وهذه المقترحات هي محاولة لتلبية مطالب إسرائيلية عجزت عن تحقيقها في
    الحرب.
    فيتدخل محمد شطح قائلاً: ان الوضع أصعب مما تعتقدونه أنتم، ويجب ان نتخذ قراراً الآن في موضوع انتشار الجيش وانتشار مختلف للقوات الدولية، وأي تراجع يعني بقاء الأمور كما هي، وبالتالي العودة الى الوقوع في الحرب مجدداً.
    بري: لماذا تعقّدون الأمر؟ لقد تنازل الرجل عن نقاط عسكرية حساسة، وهو يبلغكم بأنه لن يرى أحد أيّ نوع من الظهور العسكري للمقاومة في كل المنطقة.
    يتدخل الخليل موضحاً بطريقة حازمة: سلاح المقاومة خارج أي نوع من المساومة، وكل ما نقدر عليه هو ما قلناه بشأن المظاهر المسلحة، ونحن مع انتشار الجيش ولا نمانع تعزيز القوات الدولية، ولكن يجب ان نناقش بالتفصيل كيف يتم الأمر، وبأي صلاحيات ووفق أي نوع من الآليات. ويكون الأمر في المنطقة للجيش وحده. وليس لدينا استعداد لأي نقاش آخر.
    يصمت الجميع لبعض الوقت. ويقتنع الحضور من دون كلام بأنه لا يمكن الوصول الى نتائج. فجأة يفتح باب الغرفة ويدخل مرافق بري (أبو شعيب) ويسلّمه ورقة، فيقرأها بري وتتغير ملامحه ويبدأ بالصراخ: من فعل ذلك؟ ومن الذي تحدّث في الأمر؟ من هو ابن الكلب الذي قام بذلك؟
    يلتفت إليه الحاضرون ويسأله السنيورة: خيراً، ما الذي حصل؟ فيرد بري: قناة «العربية» تذيع الآن خبراً عن اجتماعنا هنا وتسمي الحضور. فجأة، تتغيّر سحنة السنيورة ومستشاره. يبتسم حسين الخليل ويقف قائلاً: ما دام اجتماعنا قد انتهى، والمشكلة في وجودي أنا على المستوى الأمني، فسوف أغادر وأستودعكم الله!
    بعد رحيل الخليل، يقول بري للسنيورة: «ما قدّمته المقاومة الآن هو الحدّ الأقصى... تصرّف على هذا الأساس».

    الجزء الأول | الجزء الثاني