strong>غسان سعود
  • السيدة الستينية تحوك البسط وتؤمن بقيامة لبنان


  • ارتبطت صورة «النول» وصناعة البسط بمُسنّ يتحرك ببطء في قصر موسى السياحي. وفيما القصر يضيق يوماً بعد يوم بالحرفيين، يصر آخرون على «مقاومة العولمة» والإبقاء على الحد الأدنى من الصناعة الوطنيّة اليدويّة. أنطوانيت نفش من هؤلاء المقاومين. تجمع الألوان لتُخرج منها صوراً تبدو كأنها تنبض بالحياة

    في الطريق الداخلي من بيروت في اتجاه الشمال، وعلى بعد أمتار من ساحة أنطلياس، ثمة متجر صغير لبيع البسط التي تطل غالباً من خلف السلال القصبية، وخلف السلال نلمح عيون سيدتين هما من أقدم التجار في هذه المنطقة المتنيّة. المتجر لا يحتاج إلى اسم يُعرف به، يكفي زائر المنطقة أن يسأل عن مكان يبيع البسط المصنوعة يدوياً ليدله الصغير والكبير على «أنطوانيت ونوال». تخطت أنطوانيت نفش الـ65 عاماً، وفقدت معظم أسنانها، وغزا الشيب رأسها، وتمددت التجاعيد في مختلف الاتجاهات فوق بشرتها، وأنهك التعب كتفيها. تبدو ابتسامة أنطوانيت المفعمة بالحياة كأنها الثابت الوحيد وسط المتحولات الكثيرة في جسد هذه السيدة. وفدت مع عائلتها في سن السادسة عشرة من حمص إلى لبنان.
    حملت العائلة معها النول الذي كان منتشراً في كل بيت سوري تقريباً في تلك المرحلة، فكان والد أنطوانيت يطمئن أبناءه كلما سألوه عمّا سيفعلونه في لبنان إلى أن النول كفيل باجتراح العجائب. وسرعان ما استأجر الوالد بعد استقرارهم في أنطلياس هذا المتجر الذي يحافظ حتى اليوم على طابعه المعماري القديم عبر حجارته الكبيرة التي تزيد من الطابع التراثي الذي يحيط بمهنة الحياكة. ويتألف المتجر من غرفتين، واحدة كبيرة مخصصة للصناعة اليدوية حيث يوجد النول و«خيط الطول» وعدة العمل، والثانية لعرض هذه الصناعات أمام الزبائنرفض الوالد السماح لبناته بالتوجه إلى المدرسة وأجبرهن على العمل المضني خلف النول، لكن أنطوانيت تمكنت من التعلم ــــــ بمفردها ــــــ القراءة والكتابة، إذ كانت تغزل بيد وتكتب باليد الأخرى. وكانت الفتيات يقضين أكثر من 16 ساعة يومياً خلف النول يحركن الخيطان ويجمعن الألوان. وبعد عقدين على استقرار العائلة في أنطلياس توفي الوالد تاركاً لأنطوانيت وشقيقتها نوال «الحفاظ على المهنة الوراثيّة وإكمال الطريق على رغم مشقاته»، كما تقولان.
    تفرح أنطوانيت لاهتمام الإعلام بهذه المهنة المُهملة من الدولة. وتؤكد أن «مصلحتهما هي الأفقر، حيث إن الحياكة في الظروف الصعبة التي يمر بها لبنان منذ سنوات لا تُطعم طحيناً فكيف بالخبز»، مشيرة إلى أنها في فترة سبقت اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري كانت تتدبر أمرها، فتقوم ببيع بعض المنتوجات لمحال «الأرتيزانا» السياحية، لكن أصحاب تلك المتاجر توقفوا عن شراء بضائعها بعد 14 شباط لأسباب مبهمة. وتلفت أنطوانيت إلى أن المرحلة الذهبية لهذه المهنة تعود إلى «لبنان ما قبل الحرب، عندما كانت السوق مزدهرة، ويقصدنا الناس من مختلف أنحاء الكرة الأرضيّة».
    وتوضح «سيدة النول» أن العمل المضني، والجلوس ساعات طويلة خلف النول يتركز شتاءً فيما تقل «الخصيّة» صيفاً.
    تتذكر أنطوانيت كيف كان الزبائن والجيران، قبل سنوات، لا يتوقفون عن الهتاف «أنطوانيت أنطوانيت» طوال النهار سائلين عن الأسعار تمهيداً للشراء. الحال سيئ لكن أنطوانيت تصر على الاستمرار في عملها على رغم تراجع المبيعات، فتقوم ببيع السلال المستوردة من الصين. وهي تلفت أيضاً إلى عاملين أساسيين يساعدانها على «الصمود»، يتمثل الأول في موقع المحل على الطريق العام، والعامل الثاني «المساعد» لاستمرار أنطوانيت هو إيجار المتجر المتدني.

    مهنة القهر

    على رغم ابتسامتها الدائمة، وتنقّلها بفرح بين النول والعدّة والبسط الملونة، تصف أنطوانيت حرفتها بـ«مهنة القهر»، وتكشف أن تعلّمها هذه المهنة لم يأت انطلاقاً من رغبة دفينة لديها أو بقرار شخصي، بل بضغط من والدهاخلال الحرب لم تقفل أنطوانيت المتجر ولو ليوم واحد. فتحولت إلى الجارة الأحب إلى قلوب أهالي أنطلياس، فهؤلاء نادراً ما يمرون من أمام «محترفها» من دون إلقاء التحية عليها، و«حتى المغتربون منهم يعتبرون زيارة أنطوانيت في رأس أولويّاتهم»، كما تقول.
    تقلب أنطوانيت بضعة بسط متناسقة الألوان، مرددة أن «لهذه المصلحة اختصاصيين، ومهما تعلم المرء أموراً تتعلق بها، يبقى جاهلاً لمعلومات إضافية ضرورية للعمل»، وبثقة تؤكد أن «القطعة التي تخرج من بين يديها بعد جهد مضنٍ تعتبر فريدة لا أخت لها»، وتضيف أن «بضاعتها مضمونة لخمسين سنة»، وتشير إلى أن عدداً من زبائنها يشترون بضع قطع، يستخدمونها عدة سنوات، ثم يقدمونها هدايا لآخرين. وعلى رغم إعجاب أنطوانيت «بما تخرجه يداها وبالنول»، تعود عيناها لتجول بقلق وسط حجارة الغرفة الصغيرة مكررة القول «إنها مهنة القهر».

    السعادة الضائعة

    الحديث عن «عذاب النول» يجر كلاماً مرّاً آخر. تُفاجأ أنطوانيت حين تطرح على نفسها السؤال عن حياتها. ترتبك وتبحث أكثر عن مغزى السؤال عن اللحظات الحلوة في حياتها، يدور أحد أصابعها بين يديها مصحوباً بنظرة من عينيها. تبحث عميقاً في ذاكرتها لتنتهي إلى القول إنها لم تعش لحظات سعادة، وإنها لم تقم يوماً بشيء جميل. عبارات تقولها السيدة من دون البحث عن مبرر. وحتى حين تحاولشقيقتها التخفيف من حرج اللحظة، تُسكتها مرددة أن «عيش إنسان مع النول مدى أكثر من خمسين عاماً، لأربع وعشرين ساعة يومياً، يعني أنه التزم دفن نفسه وهو حي»، وبعد صمت يستمر دقيقتين تقريباً، تعود أنطوانيت لتشكر ربها لأنها تعلمت هذه المهنة التي حفظت كرامتها، «بقينا طوال عمرنا حاكمين لا محكومين»، وقد وفّرت لها لقمة العيش في أشد الأيام سوءاً، وتقول مع ابتسامة ساحرة إنها لم تستعط أحداً، وجمعت بعض المال، واشترت لنفسها شقة. جلّ ما تتمناه أنطوانيت هو « ألا تتبهدل في آخر عمرها»، وألا يصيبها مرض، لافتة إلى أنها لم تتنبه إلى ضرورة الحصول على الجنسية اللبنانيّة إلا بعدما اضطرت إلى دخول المستشفيات وشراء الأدوية على نفقتها الخاصة. تشعر أنطوانيت أن «الخبرية ناقصة»، فتوضح أنها لم تهتم طوال أكثر من خمسين عاماً في لبنان إلى ضرورة التقدم من وزارة الداخلية بطلب الحصول على الجنسية اللبنانية. وتتابع مؤكدة أن الحرفيين اللبنانيين لم يكونوا يوماً ضليعين باستعمال النول، وحتى «حرفيّو بيت شباب وبسكنتا الشهيرون كانوا يستعينون بالمعلمين السوريين داخل محترفاتهم لصناعة ما يعتبر لاحقاً إبداعات لبنانيّة».




    قصص وذكريات

    في بلدتي بيت شباب وبسكنتا المتنيّتين، كان هناك أكثر من 400 نول، لكن تراجع الطلب اللبناني على المنتجات الحرفية، دفع معظم أصحاب «النول» إلى بيعها أو «ضبِّها» في انتظار ارتفاع ثمنها كقطعة تراثيّة. ولم يعد في المتن غير أنطوانيت ورجل مسنّ على الطريق العام قرب بكفيا.
    ترى فيه أنطوانيت وشقيقتها نوال أن سبب إصرارهما على الصمود على رغم متاعب هذه الحرفة يكمن في شعورهما بواجب الحفاظ على مهنة جدودهما وإرث والدهما. وتؤكد أنطوانيت أن «حياكة البسط» لا يمكن تعلمها خلال أسابيع أو أشهر، مشيرة إلى أن كثيرين قصدوها لتعلم هذه المهنة، لكنهم ما إن اكتشفوا قلة المردود حتى «اختفوا». وتقول أنطوانيت إن الحياكة تحتاج إلى ذكاء كبير، وذوق مبدع، وشعور مترسخ بالانتماء إلى المهنة وعشقها. وتقول نوال، شقيقة أنطوانيت، إن ثلاثة من أبنائها الأربعة لا يدخلون المتجر إلاّ لبضع ثوان.
    تؤكد أنطوانيت أن هذه الحرفة ستعود لمتقنها بعد سنوات قليلة بثروات ضخمة، وخصوصاً أنه سيحتكر السوق. وبثقة تجزم أنطوانيت أن القطعة التي تبيعها اليوم بعشرين ألف ليرة سيبلغ ثمنها مئتي دولار عند «قيامة لبنان». هذه القيامة لا تجدها «سيدة النول» مستحيلة «في بلد خبر أهله التعامل مع الزلازل».