جان عزيز
كل العوامل الداخلية والخارجية باتت تؤكد وقوع الوضع اللبناني في المأزق الحتمي. وآخر المؤشرات، الموقف غير المفاجئ للتكتل الطرابلسي النيابي أول من أمس في سان كلو. يبقى السؤال: ما الاتجاه الذي سيتخذه «المأزقيون» في ظل موازين القوى المعروفة والمكشوفة.
النقطة الحاسمة في إدراك قعر الأزمة، هي بلا شك انهيار الأكثرية النيابية حسابياً.
صحيح أن هذا القعر كان متوقّعاً أصلاً، نتيجة ولوج السلطة القائمة في نفق مسدود، منذ قيامها على أساس {التحالف الرباعي} الذي جمع {حزب الله} وحركة {امل} والحزب التقدمي الاشتراكي وتيار {المستقبل}، قبل سنتين، ومن ثم اعتقادها بالقدرة على التنصل من هذا التحالف من دون إعادة النظر في تركيبتها وسياستها.
لكن الجدار بات أكثر اتّضاحاً اليوم، بعدما فقد فريق السلطة الأكثرية المطلقة داخل المجلس النيابي. والدقة تقتضي القول إن عوامل عدة ساهمت في ذلك:
أولها جريمتا الاغتيال اللتان أودتا بحياة بيار الجميل ووليد عيدو.
وثانيها بعض الاعتبارات الداخلية في الحلقة الأولى والأضيق من خيوط المنظومة الحريرية، أدت إلى خروج النائب بهيج طبارة قبل مدة.
وثالثها اعتبارات مماثلة في دائرة أوسع ضمن المنظومة نفسها، وهي الدائرة السنية ـــــ المناطقية المشتركة، وأدت إلى تمايز التكتل الطرابلسي منذ أكثر من تسعة أشهر.
ورابعها اعتبارات متعلقة بنهج المنظومة الحريرية حيال المسيحيين الملتحقين بها. وهذا ما أدى إلى سلسلة امتعاضات من جانب هؤلاء، ظلت تعسّ تحت نار قريطم، حتى وجدت في مواقف بكركي الأخيرة سقفاً كافياً لوقوفها في العلن. وهذا ما جعل ثلاثة نواب موارنة مؤكدين آخرين، يبلغون الصرح البطريركي، على طريقة الاعتراف، خروجهم من حساب الأكثرية الحريرية، ووضع أنفسهم في تصرف بكركي وبرسم موقفها ورصيدها.
وبات معروفاً أن النواة الأولى للمنظومة الحريرية، حاولت طيلة الفترة الماضية بذل كل الجهود الممكنة لسد هذه الخروق المستجدّة. وقد جنّدت لذلك كل إمكاناتها وطاقاتها. فتم توسيط القنوات العائلية كلها لاستيعاب حركة النائب طبارة من دون جدوى. أما تمايز الوزير والنائب محمد الصفدي فعُبئت لمعالجته وسائل مختلفة، من الضغط طرابلسياً عبر تعيين السفراء من خارج الملاك، إلى التسريبات الصحافية الخارجية في مسائل مالية مفبركة، وصولاً حتى زيارة رئسش اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط الأخيرة إلى الرياض، على قاعدة الاعتقاد بأن علاقة وثيقة تربط الوزير الصفدي بالأمير تركي الفيصل، وبالتالي جسّ نبض الرياض حيال كونها بعض الدافع، أو بعض المعالجة.
وحتى النواب الموارنة الثلاثة الخارجين إلى رصيد بكركي، تمت مقاربتهم من أكثر من مصدر، وصولاً إلى سفير أوروبي بارز... ولم تثمر كل تلك الجهود على المستويات المذكورة كلها.
إزاء هذه الصورة، وبعدما تأكد فقدان نصاب النصف زائداً واحداً، تبدو المنظومة الحريرية واقفة على مفترق طرق، وممسكة بكل الأوراق اللازمة لها، لاختيار أي من السبيلين الممكنين: إمّا الهروب إلى الأمام، وإمّا التراجع والانكفاء.
السبيل الأول صار عنوانه معروفاً: رفض تأليف حكومة وحدة وطنية بذريعة مداهمة الوقت، وبحجة الاتفاق المسبق على الرئاسة، في شكل يؤدي حتماً إلى دخول الفراغ الدستوري الكامل في 24 تشرين الثاني المقبل. وهو ما ترسم الأكثرية له سيناريو «فؤاد السنيورة رئيساً للجمهورية للمدة الباقية من ولاية المجلس النيابي الحالي»، أي حتى صيف 2009.
أما السبيل الثاني فهو المبادرة إلى تأليف حكومة إنقاذية، تجنّب لبنان الاحتمالات الأسوأ، وتوفّر شبكة الأمان الضرورية في ظل البهلوانيات السياسية التي تشهدها المنطقة.
وبين السبيلين المتناقضين، تبدو كل خطوات المنظومة الحريرية وكأنها مكيّفة مع مفهوم العصا من الوسط. فمؤتمر سان كلو، والانتخابات الفرعية من جانب واحد، واتصال النائب سعد الدين الحريري بالعماد ميشال عون وغيرها من الأمور، تصلح لسيناريو الفراغ، إذا ما كانت مقررة بهدف تقطيع الوقت لتضييعه، كما تصلح لسيناريو الانكفاء اللائق، إذا ما أُريد منها إيجاد الإخراج الدولي والشعبي للعودة إلى الحد الأدنى من تركيبة السلطة الميثاقيةالتوافقية.
أيّ الاحتمالين هو الصحيح؟
لا يبدو صمت السنيورة، ولا صوت سمير جعجع، ولا وجه جنبلاط، عوامل مساعدة على استجلاء الجواب.