إبراهيم الأمين
أدخل وليد جنبلاط قواعد جديدة على إدارة الصراع السياسي في البلاد. أفتى بحرمة التواصل الإنساني بين اللبنانيين إذا كانوا على خلاف في وجهات النظر السياسية.
ولشدة بأسه أمام «صغار» فريق 14 آذار، لم يجرؤ أي من هؤلاء على مصافحة زملاء له في الندوة البرلمانية. وأكثر من ذلك، اضطر هؤلاء إلى رفع منسوب السباب في معرض تأكيد خصومتهم الشاملة مع خصومهم السياسيين.
وهذه الفتوى سبقتها أخرى يوم حاول إرهابيون اغتيال نائب رئيس الحكومة الياس المر، يومها قام سعد الحريري ومروان حمادة وآخرون من قوى 14 آذار بعيادة المر في المستشفى، وحصل لقاء من دون كلام مع الرئيس إميل لحود وآخرين، وصدرت الصحف يومها بصورة تجمع الخصوم. لكن جنبلاط لم يتأخر في إدانة هذا المشهد الذي ينمّ عن «عقل تسووي مع القتلة». ثم تطوّرت فتاوى الأمير لتلامس حدود تجديد خطأ والده التاريخي إزاء المسيحيين، بدعوته إلى عزل «حزب الله» وإلى عزل الشيعة إذا تطلب الأمر، وهو الكلام المحبب عند حليفه سمير جعجع، الراغب في رتبة الإمارة وقاتل رئيس وزراء لبنان. فذهب الأخير الى ما يخفي عقدة دونية تسكن فكره السياسي بالإشارة الى أنه يرغب في العيش في بلاد لا تضم مواطنين من أبناء فريق كـ«حزب الله»، وهو نفسه العقل التصفوي الذي اعتمده القاتل نفسه يوم قاد حروب الإلغاء ضد كل خصومه المسيحيين، وهو الذي يعيد الآن إلى الأذهان صورة أمير الحرب الذي لا يتورّع عن شيء من هذا القبيل، وهو الذي عاد سريعاً إلى ترهيب الأقربين، وما يحصل في المؤسسة اللبنانية للإرسال خير شاهد.
إلا أن الأمر لا يتوقف عند هذا السلوك، إذ إن الصورة تبدو لصيقة بما هو متوقع في المرحلة المقبلة، بعد قرار فريق 14 آذار تجاوز الواقع المحلي والذهاب مباشرة نحو الوصاية الدولية المباشرة من خلال طلب إقرار المحكمة الدولية كيفما اتفق مع متطلبات مجلس الأمن، وهو الأمر الذي تظهر المعلومات أنه يتم هذه المرة مباشرة من غرفة العمليات الفرنسية التي يقودها الرئيس جاك شيراك، الذي لا يزال يأمل بخطوة حاسمة باتجاه المحكمة قبل خروجه من قصر الرئاسة، علماً بأن مصادر دبلوماسية استبعدت خطوة من هذا القبيل قبل زيارة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الى سوريا في الرابع والعشرين والخامس والعشرين من الشهر الجاري. وقالت إن صدور قرار من مجلس الأمن قبل هذه الزيارة يعني أنه لا فائدة منها أو أن طرفاً ما سيلغيها قبل حصولها.
وبحسب مصادر واسعة الاطلاع فإن النقاش العملي انتقل سريعاً إلى مرحلة ما بعد إعلان الطلاق من جانب قوى 14 آذار. وهو النقاش الذي يأخذ أبعاداً سياسية ودستورية، وجاء في سياقه اقتراح الوزير المر تأليف حكومة عسكرية، وبرغم نفيه المتوقع للخبر، فإنه سبق أن نوقشت الفكرة ضمن حوار بينه وبين مسؤولين فرنسيين بينهم من يمثل جهات أمنية فرنسية، ثم بادر هو الى مفاتحة قريب أحد المراجع بالأمر من زاوية أن الحلول الجاري البحث عنها قد تدفع البلاد إلى انقسام على شاكلة ما كانت عليه البلاد في نهاية الثمانينات. وأن الحل الوحيد المتيسّر الآن هو تكليف قائد الجيش والمجلس العسكري في المؤسسة القيام بإدارة مؤقتة للبلاد. وهو سمع رفضاً لاحقاً من المرجع نفسه ومن آخرين وصلهم النبأ بمن فيهم قوى بارزة في فريق 14 آذار لا تريد أن تسمع لحظة بأي شيء عن العسكر.
لكن اقتراح المر الذي لا يقبله قائد الجيش نفسه، وترفضه غالبية القادة من الموارنة لربطه بالاستحقاق الرئاسي من جهة، كما ترفضه قوى من 14 آذار ترى أن الجيش الآن في وضع يمكّنه من تحمّل مسؤولية من هذا النوع تحظى بدعم غالبية القوى من فريقي الموالاة والمعارضة. لكن هذه القوى ترى في الجيش اليوم خصماً ما لم ينضمّ الى الخطة الدولية الهادفة الى وضع اليد على كل شيء في لبنان، من خلال توجيه ضربة أمنية وعسكرية الى «حزب الله» وإقفال الحدود مع سوريا. كذلك هناك سؤال عن الموقف الخارجي من الاقتراح نفسه، ومع أن المصادر المطلعة تؤكد تورّط جهات فرنسية في مناقشة الفكرة فإن موقف الولايات المتحدة يظل غامضاً، برغم كثرة الحديث عن العلاقة القوية جداً التي تربط الوزير المر بالسفير الاميركي في بيروت جيفري فيلتمان والتي تجاوزت الإطار السياسي إلى نوع من الصداقة يحتمل المكاشفة وتبادل الآراء.
إلا أن الجانب الآخر من النقاش الجدي هو المتصل ببحث بدأه الرئيس إميل لحود مع قانونيين ودستوريين وسياسيين من حلفاء ومن أقطاب المعارضة لدرس احتمال اللجوء إلى قرار من شأنه نزع الشرعية الكاملة عن حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بحسب ما يرى أصحاب هذا الرأي الذين يفترضون أنها بلا شرعية شعبية، وأنها فاقدة لنصابها القانوني ما يمنع عليها التشريع وخلافه، وبالتالي فإن فكرة إقدام رئيس الجمهورية على حل الحكومة وربما حل البرلمان أيضاً ترد ضمن مشروع لم تتضح بعد معالمه السياسية ولا أصوله الدستورية. وهو ما يشكل مقدمة لخطوة أخرى تقول بتأليف حكومة انتقالية.
وبحسب المصادر الواسعة الاطلاع فإن الحديث يدور عن حكومة مصغرة تضم مجموعة من الوزراء يمثلون حالة مستقلة نسبياً ولهم وزنهم العام في البلاد والطوائف الرئيسية، وليست هناك من مشكلة خاصة مع أي منهم، إلا أن البحث الأصعب يتعلق بهوية رئيسها وبطائفته، بين من يريد رئيساً من الطائفة السنية، وهو أمر متعذر لناحية إيجاد شخصية تحظى بدعم غالبية السنة، كما يصعب إقناع أي شخصية قريبة من تيار «المستقبل» بخطوة كهذه، علماً بأن هناك اقتراحات بأن يكون من إحدى الطوائف المسيحية، وأن يتمتع بشرعية وحيثية تتيح له القبول بهذه المهمة أولاً، ويكون قادراً على تسويق نفسه ثانياً.
لكن هذا النقاش لا يغفل حقيقة أنه يصعب انتزاع شرعية دولية أو عربية كاملة لخطوة من هذا النوع، بل أكثر من ذلك، فإن الأمر سيفتح البلاد على واقع سبق أن خبره اللبنانيون، لكن أصحاب وجهة النظر هذه ينطلقون من كون فريق 14 آذار قرر أخذ البلاد إلى جحيم الفلتان والفتنة.