نقولا ناصيف
قبل ثلاث سنوات، في مثل هذه الأيام، في 12 آذار 2004، افتتحت مستشارة الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي آنذاك كوندوليزا رايس السباق إلى انتخابات الرئاسة اللبنانية. من مبنى السفارة اللبنانية في واشنطن، تكريماً لوزير الطاقة الأميركي اللبناني الأصل سبنسر أبراهام، خرجت على نص مكتوب كان معدّاً لكلمتها، وأعلنت رفضاً مزدوجاً لتعديل الدستور بغية تمديد ولاية الرئيس إميل لحود والتدخل السوري في الانتخابات الرئاسية اللبنانية. قالت حينذاك بترك اللبنانيين يختارون رئيسهم بأنفسهم.
تباعاً كرّت سبحة المواقف الأميركية إلى أن بلغت ذروة في قرار مجلس الأمن رقم 1559 الذي صدر في 2 أيلول 2004، عشية التمديد للحود، وطالب بإجراء انتخابات حرة ونزيهة وفق قواعد الدستور اللبناني، من غير تدخل أو نفوذ أجنبي.
أين تقف واشنطن من استحقاق 2007، قبل ستة أشهر من بدء المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية؟
إلى الآن لم تقل رسمياً وعلناً كلمتها، مباشرة أو مداورة، في الموضوع. تكتفي بتشديد قبضة العزلة الدبلوماسية الدولية على الرئيس الحالي ومقاطعته السياسية، وتشجيع قوى 14 آذار على المضي في خيارات مقاومة أي نفوذ أو تدخّل سوري في لبنان ومسّ إرادة حكومته الحالية. لكن مصادر دبلوماسية لبنانية واسعة الاطلاع، تستخلص من لقاءات رسمية يجريها سفراء دول كبرى في لبنان أو حوارات في لقاءات خاصة، وبعضها بعيد عن الأضواء، اهتماماً أميركياً وأوروبياً بالسجال الدائر بين فريقي الغالبية والمعارضة حول النصاب القانوني لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية. وفي حصيلة ما خرج به بعض هؤلاء السفراء، وهم ممن يلتقون أفرقاء في الغالبية ما خلا استثناءات محدودة تحملهم على الاجتماع بشخصيات معارضة، تبنّيهم لما سمعوه من قوى 14 آذار ، وهو أن النصاب القانوني لجلسة الانتخاب هو النصف زائداً واحداً (65 نائباً) لافتتاح الجلسة، على أن يُنتخب الرئيس بغالبية الثلثين في الدورة الأولى للاقتراع والأكثرية المطلقة في الدورة الثانية والتي تليها. وتكوّن لدى هؤلاء، طبقاً لما تكشفه المصادر الدبلوماسية اللبنانية الواسعة الاطلاع، اقتناع بعدم وجود عقبات وعراقيل في طريق الاستحقاق عندما يحين أوانه، وأنه ليس في وسع المعارضة الحؤول دون التئام البرلمان لإيصال مرشح يستكمل الواقع السياسي والدستوري الناشئ عن انتخابات 2005، وتالياً إحكام قوى 14 آذار سيطرتها على رئاسة الجمهورية.
لكن لقاءات عقدها بعض هؤلاء السفراء مع شخصيات معارضة مع تصاعد وتيرة السجال السياسي بين طرفي النزاع، ثم ما أعلنه رئيس المجلس نبيه بري (الثلثاء الفائت) عن نصاب جلسة الانتخاب، وهو أنها لا تفتتح إلا في حضور ثلثي النواب، كل هذا أحدث بلبلة في اقتناعهم، وأخذوا يلحون على التساؤل عن احتمال إقدام المعارضة على تعطيل الجلسة لكونها ترى نصاب الأكثرية المطلقة غير دستوري. عند هذا الحدّ راحوا يتتبعون التجاذب الداخلي من موقع المراقب، دون الإغراق في تحديد موقف علني من الانتخابات. وأخذ معظم هؤلاء، من ممثلي دول كبرى، يشدد على توافق اللبنانيين على الحل الداخلي. إلا أنهم ـــ والكلام للمصادر الدبلوماسية اللبنانية ـــ باتوا أكثر رسوخاً بأن المشكلة اللبنانية انتقلت، أو هي على وشك الانتقال، من الخوض في أزمة الخلاف على حكومة الوحدة الوطنية إلى الخلاف على انتخابات رئاسية.
واستناداً إلى دبلوماسي بارز مطلع عن قرب على الموقف الأميركي من انتخابات الرئاسة اللبنانية، فإن الإطار الذي يحيط بهذا الموقف يرتكز في رأيه على المعطيات الآتية:
1 ـــــــ إن هذا الاستحقاق آت، وقد يكون مصدراً ضاغطاً في الوقت للتوصّل إلى حل. ولا تقاربه واشنطن إلا من هذا الجانب في سياق السجال المحيط به.
2 ـــ ليس لدى واشنطن مرشح محدّد للرئاسة اللبنانية. بل يصح القول بأن إعلانها عن مرشح لبناني تدعمه كاف لإفقاده حظوظه في الوصول إلى المنصب، في ضوء النزاع الداخلي الناشب اليوم بين اللبنانيين.
3 ـــــ تفضّل واشنطن عدم الخوض في مواصفات الرئيس المقبل، لأن الموضوع شأن لبناني محض. إلا أنها تدعم انتخاب رئيس يقبل به اللبنانيون جميعاً، ويصار إلى انتخابه وفق قواعد الدستور اللبناني واحترام أحكامه.
4 ـــــــ ترى في رئيس البرلمان نبيه بري جزءاً من قوى 8 آذار، وفي رئيس الحكومة فؤاد السنيورة جزءاً من قوى 14 آذار. وجميع اللبنانيين يعترفون ببري رئيساً شرعياً للبرلمان، وفي أحد الأوقات كانوا يجمعون على السنيورة على أنه رئيس شرعي للحكومة اللبنانية قبل أن تطرأ الأحداث الأخيرة والخلافات داخل الحكومة مع الطرف الشيعي. إلا أن واشنطن تعتقد أن انتخاب رئيس للجمهورية يرى كل الأفرقاء أنه شرعي، سيجعلها تؤيده وتتعامل معه قياساً على ذلك.
5 ـــ ليس لواشنطن أن تتدخل في تأويل أحكام الدستور اللبناني، وإبداء رأي في النصاب الدستوري اللازم لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وهذا شأن تعدّه لبنانياً داخلياً لا علاقة لها به، ولا تتخذ مواقف منه. لكنها تدرك أيضاً أن عدم توافق الأفرقاء اللبنانيين على النصاب الدستوري للجلسة سيقود إلى نزاع سياسي إضافي لا تؤيد واشنطن افتعاله، أو المضي فيه. وسيكون مصدراً لقلق أميركي. في المقابل، يتعيّن على الأفرقاء اللبنانيين أن يتيقنوا من أن واشنطن لن تتدخّل لحسم هذا الخلاف بتفسير من عندها.
6 ــــــــ لم تناقش مع قوى 14 آذار أمراً يتعلق بإقدام هذه على انتخاب رئيس للجمهورية وفق النصاب القانوني الذي تمثله في مجلس النواب (الأكثرية المطلقة). ليس الأميركيون في صدد عقد صفقات من هذا النوع، ولم يحصل اتفاق على أمر كهذا. الدستور اللبناني هو الذي يحدّد آلية انتخاب الرئيس اللبناني.
7 ـــــــ لن تقف واشنطن في وجه أي إرادة لبنانية. لكنها تتساءل هل المعارضة تريد منها أن تقف في طريق إرادة الغالبية النيابية التي تمثل إرادة فريق كبير من اللبنانيين وأكثريته في مجلس النواب؟
8 ـــ تعتقد واشنطن أنه لن يكون لسوريا دور في انتخابات الرئاسة اللبنانية، وتأمل جدياً ألا تقدم على التدخّل عبر حلفائها اللبنانيين لعرقلتها، لثقتها بأن لبنان مستقراً يشكل مصلحة مباشرة لكل دول المنطقة، بما فيها سوريا. يؤول ذلك إلى التساؤل الآتي: هل ستكون سوريا مستعدة لإقامة علاقات دبلوماسية مع لبنان إذا تدخلت في انتخاب رئيس جديد لهذا البلد؟ بالتأكيد الجواب هو النفي.