جان عزيز
توقفت أوساط سياسية مسيحية باهتمام كبير، عند الإشارة التي تضمّنها بيان مجلس المطارنة الموارنة أمس، عن وجوب ألا يرتبط مطلب تأليف حكومة وحدة وطنية بحسابات خفيّة تهدف الى عرقلة إنشاء المحكمة الدولية، أو بمصلحة فئوية أو خارجية. وتوقعت، بادئ ذي بدء، أن يزيد هذا الكلام من منسوب الغمز الدائر على الساحة المسيحية، من قناة بعض المواقف السياسية للمرجعيات الروحية. وهو غمز كان قد استعر مطلع تموز الماضي، ولم يغب قبل أسبوعين عن مضمون نداء لافت، كان قد وجّهه نائب ماروني قريب من بكركي.
وسارعت جهات قريبة من الصرح الى محاولة استيعاب المسألة، موضحة أن الصياغة الواردة في البيان دقيقة جداً، وهي لا يمكن تأويلها بأي حال من الأحوال، على أنها موقف ضد قيام حكومة وحدة وطنية، بل مجرد إشارة الى وجوب عدم الربط المشار إليه. غير أن الأوساط نفسها رأت أن هذا التوضيح غير كاف، وخصوصاً وسط عملية الاستغلال والتضليل الإعلاميين اللذين يتعرض لهما الرأي العام المسيحي، واللذين غالباً ما يستخدمان اجتزاءات “بكركوية” مادة لأغراضهما.
وأوضحت هذه الجهات، وبعضها قريب جداً من الصرح وعائد لتوّه من جولة أوروبية شملت لقاءات رفيعة المستوى، أن الوضع السياسي الراهن والمرتقب، يتطلب دقة أكبر ووعياً أدق للتحديات المقبلة، والاستحقاقات المنتظرة، كاشفة أن «الأجواء اللبنانية» في عواصم أساسية مثل باريس ولندن وبروكسل، تميل الى السوداوية، والى إدراك مكتوم للمآزق التي بلغتها السياسات الغربية في بيروت. كما أن ثمة انطباعاً واضحاً يعود به زوار هذه العواصم، بأن ورقة القوة الدولية (يونيفيل) كأداة للتغيير في الواقع اللبناني، باتت تعتبر ميتة لدى الدول المعنية بها، وهي لم تعد تعوّل عليها ولا على آلياتها القانونية الدولية الملحقة. وبالتالي فإن الاستحقاقات الأساسية المقبلة على لبنان، ستكون متروكة الى حد كبير، على همّة التوازنات اللبنانية الداخلية وحدها. وسيتأكد أكثر فأكثر وهم الرهانات الخارجية في هذا المجال.
وتضيف هذه الجهات، أنه في ظل هذه الصورة، تبرز الملفات ــ الاستحقاقات الثلاثة: المحكمة الدولية ــ الوضع الحكومي ــ رئاسة الجمهورية. وتشير الى خطأ وخطر كبيرين، وقع فيهما بعض المسؤولين الدوليين، حين تحدثوا عن المحكمة الدولية، في شكل متلازم مع ربط جريمة اغتيال رفيق الحريري، «بالأعمال الإرهابية التي وقعت في لبنان»، وذلك من دون تحديد أي إطار زمني لتاريخ وقوع هذه الأعمال. وهو ما يشكل إنذاراً كافياً لاستنفار جماعة لبنانية كاملة، قد ترى نفسها مستهدفة. وفي هذه الحال، تصير المسألة المطروحة، ليس رفض محاكمة مجرمي 14 شباط 2005، بل رفض استهداف هذه الجماعة، ورفض استغلال دم الحريري لهدر دم سياسي آخر، فما هو موقف بكركي عندها؟
أما لجهة الوضعين الحكومي والرئاسي، فتؤكد الجهات نفسها أن الصرح البطريركي يدرك الترابط بينهما، ويعرف تمام المعرفة أن التوازن الحكومي والسلطوي القائم، هو من سيتحكّم بالاستحقاق الرئاسي المقبل، أكان في تشرين الثاني 2007، أو قبل هذا التاريخ. وبدافع يقينها هذا بالذات أصرّت بكركي طوال الأشهر الماضية على عدم التورط في عملية إسقاط إميل لحود. وتعبيراً عن هذا الفهم، أكد المطارنة الموارنة في ندائهم الأخير في 6 أيلول الماضي، أن المطلوب من أي مرشح رئاسي «ألا يجعل من الرئاسة مطيّة يسهل على ذوي الغايات والمآرب ــ أشخاصاً كانوا أم فئات أم بلداناً ــ استعمالها لمصالحهم الخاصة»، وهي إشارة واضحة الدلالات، وخصوصاً أنها اقترنت بالحديث عن «الأنانية الفئوية»، وعن الخلل القائم في مؤسسات الدولة الراهنة.
وبالتالي تعتقد الجهات نفسها بأن بكركي، إذا لم تسعَ بكل ثقلها وجهدها، الى تغيير الوضع الحكومي القائم، فهي تكون قد مهّدت لخيار من اثنين، وفق السيناريوهين الآتيين:
السيناريو الأول، يتمثّل في أن تستمر السلطة الحالية في تكريس الخلل الحاصل، وفي توسيعه وتفاقمه، وصولاً الى السيطرة على كافة مفاصل البلاد، بما يسمح لها بإيصال رئيس للجمهورية مطابق تماماً للمحاذير التي نبّه منها نداء بكركي المذكور.
أما السيناريو الثاني، فيتمثّل في أن يقوم نوع من توازن القوى الداخلي، يؤدي الى استمرار الوضع الراهن من دون أي تبديل أو تعديل. فلا تقدر السلطة الحالية على تمرير مآربها في الاستحقاق الرئاسي، ولا يقدر معارضوها على إقناعها بالعدول عن مطامعها أو إسقاطها. وفي هذه الحال تؤكد الجهات نفسها أن رئيس المجلس النيابي نبيه بري حسم قراره، بعدم السماح للسلطة الحالية بخطف المجلس الى انتخاب رئاسي غير دستوري، وبأنه سيظل في مكتبه، منتظراً قرع الجرس المجلسي 3 مرات، إيذاناً بنصاب دستوري من 86 نائباً لانعقاد جلسة الانتخاب، وبأنه لن يسمح بأي تجاوز لهذا المقتضى الميثاقي والدستوري.
وعندها تكون البلاد متجهة الى فراغ رئاسي، تستخدمه السلطة القائمة أيضاً، لنقل صلاحيات الرئاسة الشاغرة عندها، الى مجلس الوزراء، ولإبقاء الوضع على تلك الحال حتى نهاية ولاية المجلس النيابي صيف 2009.
فهل اختارت بكركي بإشارتها أمس، تعيين فؤاد السنيورة رئيساً للجمهورية، أم أنها «سوء تعبير» مماثل لإشادتها الشهيرة في 5 آذار 2003 ، «بحكمة الرئيس بشار الأسد وبُعد نظره»؟