بيسان طي
لا نتذكّر المناطق الفقيرة إلا بعد أن تقع فيها كارثة ما. الرمل العالي هي إحدى تلك المناطق التي توجد بيننا، لكنّنا لا نراها. متى ولد “الرمل العالي”؟ متى ارتفع فيه أوّل بيت؟ ومن هم سكّانه الذين تطاردهم القوى الأمنيّة اليوم؟

وحده القمر يبعث بعض النور في ليل الرمل العالي المعتم، ورائحة الدم تفوح الأرجاء. في حي الزهراء، يجلس حسن الأعرج يسحب “نفساً” من النارجيلة، عيناه شاخصتان أبداً إلى مدرج المطار خلف الأوتوستراد، نحو الطائرات المقلعة من بيروت “أية واحدة ستحملني إلى الغربة؟”. حسن شاب أنيق، يحمل شهادة ماجستير في الإدارة المالية، قارئ نهم، يبتسم دائماً. جاء مع إخوته من عيتا الشعب قبل سنوات، ليستقر في الحي الذي يجتمع فيه “أهالي عيتا”، وفي بيروت أكمل الإخوة الدراسة الجامعيةيمضي حسن سهراته مع أصدقائه من الحي، ويحب الحديث عن الرمل العالي: “إنها منطقة كالقرى، قوانين العلاقات التي تقوم بين سكانها مستوردة من بلداتنا ولم يدخلها أي تعديل”، وحين يأتي سكان جدد إليها يسكنون الأحياء التي يقطنها أناس من قراهم. هكذا يمكن التعريف بـ “جغرافيا” المكان على الشكل التالي، يحده المطار من الجنوب ومنطقة الأوزاعي من الغرب. والأحياء الرئيسية فيه هي “الكوكودي” أو “حي الزهراء”، بحسب التسمية الجديدة، وسكّانه جنوبيون، وحي الجامع حيث غالبيّة السكان من بعلبك، وشارع آل المولى نسبة إلى سكانه الأوائل، وحي آل الأتات. وفي “حي العراسلة”، يسكن أبناء الطائفة السنيّة الآتون من عرسال ومن كفرشوبا وغيرهما، وهو الحي الأكثر فقراً. ويشهد الأهالي أن العلاقات كانت دائماً طبيعية بين أبناء الطائفتين السنية والشيعية، و“تمت بينهم زيجات”.
حسن وأصدقاؤه، لا تزعجهم الطرقات الموحلة التي لم يتم تزفيت إلاّ عدد قليل منها. لا يصغون للأطفال الصغار يطلقون المفرقعات النارية في الشوارع، ولا يخافون أصوات ورش البناء، ولا يهتمون لتوزع قوى أمنية في المناطق المحيطة بالرمل العالي. بالهم مشغول في البحث عن بريق أمل، عن وظيفة يعرفون أنها لن تكون من نصيبهم. ثم يستدركون أن الموت كان قريباً منهم، خطف أطفالاً كانوا يشاركون في احتجاج ضد من يريد أن يهدم بيوتهم.
يردد رجال ونساء من المنطقة: “شاهدنا كل شيء، شاهدنا عناصر من القوى الأمنية وهم يطلقون النار باتجاه صغار استداروا ليهربوا من الرصاص”. يذكرون أنهم لم ينجروا “إلى الفتنة التي يُخطط لها، لم نسع إلى قتال القوى الأمنية، فنحن ندرك أنهم استبدلوا ضباطاً كباراً في المنطقة وأتوا بضباط مقربين من القوات اللبنانية عشية الأحداث لتقع الفتنة”. ثم يسأل هؤلاء لماذا يُضرَبون بالرصاص وتُزال منازلهم. يظهرون نسخاً من فواتير كهرباء دفعوها للجابي “فكيف تكون إقامتهم غير شرعية ما دامت البنية التحتية قائمة، وعدّادات الكهرباء معلقة، والبلدية تلملم النفايات”، ويذكّرون بالرشى التي تدفع: “ألف دولار لتسمح القوى الأمنية بحفر بئر، وثلاثة آلاف لتشييد منزل”.
يتوقع أبناء المنطقة أن يكون عددهم نحو عشرة آلاف، يمارسون مهناً مختلفة، بعضهم عمال ومهندسون وأطباء وأساتذة مدارس، ولكن الغالبية “أولاد الدولة” أي في القوى الأمنية أو الجيش، وفي الجيل الجديد نسبة مرتفعة جداً من العاطلين من العمل.
في ذاكرة السكان القدامى لا تاريخ محدد للمنطقة، بعضهم يعرفها منذ نهاية السبعينيات أرضاً مشاعاً بلا سكان، وجزء منها أسهم لآل عودة وآل جلول وعائلات مسيحية أخرى، هذا ما تقوله المعلمة كاتيا مفرح أو الـ”Miss” كما يسميها أهالي حي الزهراء، جاءت إلى المنطقة قبل الاجتياح الإسرائيلي ولم تغادرها.
كانت البيوت متباعدة، منازل صغيرة سكانها عمال وحولها حدائق من الورود والخضار. وبين الحدائق تلال الرمل الأصفر العالية “التي سرقها مسؤولون كبار وباعوها ليراكموا ثرواتهم”. ويروي أبو جمال المولى الذي بنى منزله الصغير عام 1979 حكاية أخرى. يقول إنّ ولادة المنطقة كحاضنة للنازحين بدأت في العهد الشمعوني، وتحديداً عام 1958 ولكنه لا يذكر لها أصحاباً. يتذكر أن “مهجرين إلى المنطقة حصلوا على تسويات من المحاكم اللبنانية”.
ظلت تلال من الرمال مرتفعة حتى أواخر الحرب الأهلية. فيها غارت صواريخ الاجتياح الإسرائيلي، وبينها “مرت كل معارك الحرب اللبنانية”، وفوق رؤوس السكان حامت طائرات المتخاصمين، وعلى تخوم المنطقة أمطرت إسرائيل المطار أخيراً بقنابلها. وتذكّر مفرح بأن محاولات لتهديم البيوت تمت بعد الاجتياح لكن الدولة تدخلت وسمحت للنساء بالبناء، وشهدت المنطقة كثافة في البناء عام 1992 ثم 1994. ومع الارتفاع الكبير في إيجارات المنازل، فضل أبناء الجنوب المهدمة منازلهم أن يشيدوا بيوتاً في الرمل العالي.