نقولا ناصيف
قبل أيام بلغ إلى جهات رسمية لبنانية، منضوية في قوى 14 آذار، تقويم أميركي لمرحلة ما بعد حرب 12 تموز أدرجها تقرير ديبلوماسي تحت اسم «انتهت الهزّة الأرضية». وهي إشارة إلى خطورة ما نشأ عن تلك الحرب في المنطقة ونتائجها على نحو جعلها تتقدم أولويّات الإدارة الأميركية في جهودها الديبلوماسية لدى إسرائيل وأوروبا والعرب. وينسب التقرير إلى مسؤول في الخارجية الأميركية تدني اهتمام واشنطن في الوقت الحاضر بالوضع اللبناني عن طابعه الاستثنائي الذي رافق «الهزّة الأرضية» تلك، من غير أن يعني ذلك أن المسؤولين المولجين الملف اللبناني توقفوا عن متابعة تطورات الوضع في هذا البلد وتفاصيل مرحلة ما بعد تنفيذ القرار 1701. إلا أن مغادرة فرق التلفزة الأميركية والمراسلين لبنان وتراجع الأخير عن تصدّر الصفحات الأولى في الصحف الأميركية في الأسابيع الأخيرة، وجّها اهتمام الإدارة إلى بندين آخرين هما المشكلة الإسرائيلية ــــــ الفلسطينية والعراق.
على أن أبرز ما انطوى عليه التقويم الأميركي يكمن في الملاحظات الآتية:
1 ــــــ اهتمام خاص بـ «التهديدات» التي يوجهها الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله إلى الحكومة اللبنانية. وتعبّر واشنطن عن خشية من أن يكون الرجل «يعمل مرة جديدة» لمصلحة طرف آخر هو سوريا تحديداً. وأكثر من أي وقت مضى، تعتقد أن دمشق تريد زعزعة حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي تحظى بثقة الإدارة الأميركية وتأييدها لكونها تمثّل غالبية سياسية وشعبية حاكمة.
وينسب التقرير الديبلوماسي إلى مسؤول في الخارجية الأميركية قوله إن السنيورة، بالنسبة إلى الأميركيين والإسرائيليين على السواء، يكاد يكون الرابح الوحيد الذي خرج من حرب 12 تموز منتصراً، من غير أن يشوب انتصاره هذا التباس أو تشكيك، وقد ثبّت الثقة الدولية بحكومته وجعلها حاجة ملحة للاستقرار الداخلي, بعدما نجح في تحقيق اجماع أعضاء الحكومة اللبنانية بمن فيهم الوزراء الشيعة على خيارات الغالبية الحاكمة, وانتزاع أكثر من ورقة ضغط عسكرية وسياسية كانت في يد «حزب الله» ولوح بها ضد كل من الحكومتين اللبنانية والإسرائيلية.
2 ــــ أبرز محللون في الإدارة أهمية ما اعتبروه «اعتذار» نصر الله عن سوء تقديره ما ترتب على خطف «حزب الله» جنديين إسرائيليين في 12 تموز وحجم الردّ الإسرائيلي، لكنهم لفتوا إلى أنه استنفد آلته العسكرية في هذه الحرب أكثر من أي مواجهة سابقة مع الجيش الإسرائيلي منذ انسحاب الأخير من الأراضي اللبنانية في أيار 2000، بعد خمس سنوات من «الاستراحة»، وأن الحزب أُجبِرَ، تبعاً لما يذكره هؤلاء المحللون، على استخدام ما اعتبره نصر الله دائماً السلاح الرادع الذي يملكه في وجه إسرائيل، وهو ترسانة الصواريخ. ولكنهم أدرجوا هذا «الاعتذار» في سياق سياسة داخلية لبنانية أراد نصر الله من خلالها تأكيد اعتداده بنفسه وثقته بقيادته حزبه، ودحض أي فكرة تشير إلى ضعف.
3 ــــــ رغم شعورها بأن ما طُبّق حتى الآن من القرار 1701 يبعث على الارتياح، تستمر واشنطن في طرح أكثر من علامة استفهام حول المراقبة المتشدّدة للحدود اللبنانية ــــــ السورية. وهي إذ تفضّل في الظاهر اختبار نجاح هذه المراقبة عبر الحوار الوطني اللبناني وإجراءات الجيش اللبناني ما دام الأمر يتصل بمبدأ السيادة الوطنية، تبدو غير واثقة من نجاح هذه المحاولة.
واستناداً إلى المسؤول نفسه في الخارجية الأميركية، فإن أياً من الإنجازات التي حققها القرار 1701، كإبعاد «حزب الله» إلى شمال نهر الليطاني وإرسال الجيش اللبناني إلى الجنوب ــــــ وكان هذا رهان حكومة السنيورة ومطلباً قديماً للغالبية الحاكمة ــــــ والانتشار في مزارع شبعا وإرسال قوات دولية إلى لبنان بقدرات وصلاحيات أوسع ومراقبة الحدود اللبنانية ــــــ السورية وإغلاق منافذ التدخل السوري براً وبحراً، لم يكن ليتم لولا الحرب الإسرائيلية على «حزب الله». وصبّت هذه الإنجازات كلها في نهاية المطاف في مصلحة الدولة العبرية واستقرار حدودها الشمالية. بيد أن هذه الإيجابيات لا تحجب في المقابل سلبية لحظتها واشنطن حيال ما قالته إسرائيل من أنها دمّرت 80 في المئة من ترسانة الصواريخ البعيدة المدى لـ «حزب الله»، بينما تيقنت في وقت لاحق أن المقصود بهذا الرقم هو منصات الصواريخ لا الصواريخ، وأن المنصات كانت خالية من الصواريخ. ولكن واشنطن تبدي انطباعاً يقترب بالنسبة إليها من الواقعية، هو أن الحزب خسر 40 في المئة من قدرات ترسانته.
وفي حين عكس هذا التقويم مدى وثوق واشنطن من التقدّم المطرد في تطبيق القرار 1701، يبدو أن ثمة عقبات تحوط بتنفيذ بند نصّ عليه القرار في ضوء ما تبلغه مسؤولون لبنانيون قبل أيام من ديبلوماسي أميركي في بيروت، ويتصل باتفاق الهدنة اللبناني ــــــ الإسرائيلي الموقع عام 1949. وكانت الحكومة اللبنانية قد اتخذت في جلسة 27 تموز الفائت قراراً بالعودة إليه، بتشجيع أميركي، بغية أن يشكّل مرجعية قانونية تحكم وقف النار بين لبنان وإسرائيل. إذ نقل إليهم الديبلوماسي الأميركي موقفاً إسرائيلياً مفاده أن الدولة العبرية غير متحمّسة في الوقت الحاضر للعودة إلى أحكام هذا الاتفاق، وأن إسرائيل تفضّل الاستعاضة عنه بما سمّته «نظاماً أمنياً ثلاثياً إسرائيلياً ـــــــ لبنانياً ــــــ دولياً» لا يكتفي بترسيخ وقف النار عند «الخط الأزرق» ومنع الهجمات والأعمال العدائية، بل يؤدي إلى ما وصفه الديبلوماسي الأميركي نقلاً عن الإسرائيليين إلى «معالجة قضايا أمنية طويلة الأمد» تفتح بدورها أبواباً مشرّعة على اتصالات تتخطى ما يلحظه القرار 1701، وهو إعادة الاستقرار إلى الحدود اللبنانية ــــــ الإسرائيلية، لا أكثر.
وتبعاً لديبلوماسي لبناني واسع الاطلاع فإن تعويل حكومة السنيورة على إحياء اتفاق الهدنة، بصفته مكسباً سياسياً مهماً للغالبية الحاكمة، يظل محوطاً بغموض مرده إلى أنها لم تحدّد بعد الإطار السياسي والقانوني المرتبط بالعودة إلى هذا الاتفاق: هل تكون قبل تحرير مزارع شبعا وتسلّم خرائط الألغام في الجنوب وإطلاق المعتقلين اللبنانيين في السجون الإسرائيلية أم بعد ذلك؟