عمر نشّابة
تمكّنت لجنة التحقيق الدولية برئاسة سيرج براميرتس من إحراز تقدم ملحوظ في تحليل الاتصالات الهاتفية، ومن خلال التدقيق في مضمون المقابلات مع الشهود والمشتبه بهم. واستمرّت اللجنة بمعاونة السلطات القضائية اللبنانية في التحقيق بالجرائم الـ14، لكن يبدو أنها لا تثق بشكل كامل بهذه السلطات، لذا حجبت عنها بعض المعلومات.

بحثت اللجنة فرضية أن يكون منفذو الاغتيال مطلعين على كيفية عمل تجهيزات حماية موكب الحريري الالكترونية، وخلصت إلى أن عملية الاغتيال خُطِّط لها بغضّ النظر عن وجود هذه التجهيزات أو عدم وجودها (26). وذلك يشير على الأرجح إلى أن عملية التفجير تمّت سلكياً لأن أي خطة لتفجير لاسلكي كان ينبغي أن تأخذ بالاعتبار تجهيزات التشويش الإلكتروني. إن الفقرة 26 من التقرير، كما غيرها من الفقرات، تؤكد أن الدكتور براميرتس وفريقه أحرزوا تقدماً كبيراً، لا بل قد يكونون قد انتهوا من إعادة تركيب شبه كاملة لمسرح الجريمة. اذ تمكنوا من تحديد تفاصيل عن تركيبة أداة الجريمة: العبوة وزنتها ونوعها وكيفية تموضعها في شاحنة الميتسوبيشي؛ وكيفية استخدامها: آلية التفجير وتحديد المنفّذ. وذلك يمكّن اللجنة من الانتقال إلى المرحلة المقبلة التي يتمّ خلالها البحث عن هوية المنفّذ ومنشأ أدوات الجريمة (الميتسوبيشي والعبوة التي جهز بها).
لكن التقرير الحالي لم يذكر معلومات عن كيفية وصول سيارة الميتسوبيشي إلى بيروت من مكان صنعها في اليابان. وكان تقرير اللجنة الأول قد ذكر، نقلاً عن شاهد، أن “الفان” أدخل إلى لبنان في 21 كانون الثاني عبر الحدود اللبنانية ــ السورية في البقاع. ويضيف التقرير الاول أن السيارة كانت بقيادة ضابط سوري. من المتوقع أن تقرير اللجنة المقبل سيتطرّق إلى التحقيق في كيفية وصول الآلية إلى لبنان. (غداً سوف نتطرّق إلى احتمالات وصول الميتسوبيشي إلى لبنان عبر الإمارات العربية المتحدة).
أما في ما يتعلّق بالتلاعب بالأدلة الجنائية بعد حصول الانفجار، فيقول التقرير إن اللجنة تمكنت من التوصل إلى خيوط، وتقوم حالياً بالتأكد من صحّتها وتقوم “بتفحّص” هذه “الادعاءات”. مهنياً قد يتطلّب ذلك اهتماماً لا ينحصر في معرفة صحّة المعلومات بل التحقيق بالأسباب التي قد تدفع بعض الجهات إلى تقديم معلومات مغلوطة عن كل ما يتعلق بالجريمة. وهذا جزء أساسي من التحقيق الشامل الذي ينبغي أن يتمّ قبل تقديم الملفّ إلى المدّعي العام الدولي بعد تعيينه. وبالمناسبة، ينبغي التذكير بأن بعض المعلومات وبعض الإجراءات التي قام بها رئيس اللجنة السابق ديتليف ميليس لا تتناسب مع المعايير المهنية كالتصريحات الصحافية (صحيفة الشرق الأوسط) التي أدلى بها خلال التحقيق. التحقيق الشامل يتطلّب كشف سبب اتخاذ رئيس لجنة التحقيق السابق موقفاً اتهامياً قبل انتهاء التحقيقات.
التحقيق في الجرائم الـ14
تقوم لجنة التحقيق بمعاونة القضاء اللبناني بالتحقيق في الجرائم الـ14 التي وقعت منذ الأول من تشرين الأول 2004. وهناك تركيز خاص على المساعدة التقنية، وخصوصاً بما يتعلّق بتحليل الاتصالات الهاتفية. وتحدّثت التقارير السابقة عن ملايين الاتصالات التي يجرى البحث في إمكان ارتباطها بعملية تخطيط وتنفيذ الجرائم. وتقوم اللجنة بمساعدة أجهزة التحقيق اللبنانية في المقابلات والاستجوابات التي تقوم بها وبتحليل الأقوال والمستندات والوثائق المرتبطة بتحديد وقائع الجريمة ومنفذيها.
الاتصالات الهاتفية والمشتبه فيه
قامت لجنة التحقيق بتصنيف دقيق لملايين الاتصالات الهاتفية بحسب إمكان ارتباطها بكلّ من الجرائم الـ 14. وثمة ما يقود إلى انطباع بأن بحوزة اللجنة تسجيلات صوتية لتلك الاتصالات ومعلومات عن كيفية حصول الأشخاص على خطوط هاتفية معيّنة. البحث عن قواسم مشتركة بين مجموعات الاتصالات يتمّ بحسب التعرّف إلى الموجات الصوتية التي تمكن من تحديد الأشخاص. واكتشفت اللجنة أن شخصاً استخدم خطوطاً هاتفية مختلفة للاتصال بآخرين بالتزامن مع وقوع عدد من الانفجارات الـ 14. كما تمكنت اللجنة من تحديد أربعة أشخاص آخرين لديهم علاقة مع هذا الشخص. وتستمرّ اللجنة بمساعدة السلطات القضائية اللبنانية في البحث عن هؤلاء الأشخاص (64). وقد تؤدي التسجيلات الصوتية إلى كشف الكثير من المعلومات الإضافية بعد تحليلها ودراستها ومقارنتها. ويتمّ ذلك بواسطة أجهزة تقنية متطوّرة تفحص موجات الصوت واللغة. وتمكّن هذه التحليلات من تحديد هوية المتكلّم وتساعد على تفكيك الألغاز والرسائل السرّية التي قد استخدمها مخطّطو الجرائم ومنفذوها.
التحقيقات اللبنانية ومساعدة اللجنة
في ما يتعلّق بالمقابلات والاستجوابات التي تقوم بها سلطات التحقيق اللبنانية بما يخصّ الجرائم الـ14، قامت اللجنة بعدد منها يتعلّق بست جرائم استهدفت إعلاميين وسياسيين.
ومن خلال هذه المقابلات حصلت اللجنة على معلومات ودلائل “ذات أهمية” مكّنتها من التعرّف إلى خيوط جديدة في عملية كشف المجرمين. كما تمكّنت من ربط بعض هذه الخيوط بخيوط أخرى لتحديد إذا كانت الجهة التي قامت بالجرائم الـ 14جهة واحدة أو أكثر. ورجّحت اللجنة أن هناك دوافع “مختلفة المستويات” وتمكّنت من تحديد مستويين في اثنين من الجرائم على الأقلّ حتى تاريخ نشر التقرير: المستوى الأول يتعلّق بالشخص المستهدف ونشاطه وعلاقاته وتحركاته وخصوصياته الفردية؛ والمستوى الثاني مدى ارتباط الانفجارات ببعضها لتشكل مجموعة واحدة كجزء من خطّة متكاملة لا تحدّد الأشخاص المستهدفين بقدر ما تركّز على المناخ العام ومدى تأثير اغتيالهم على تقدّم التحقيق نفسه أو الوضع الأمني في لبنان بشكل عام أو التجاذبات السياسية الداخلية والخارجية.
وتقول اللجنة إن معاونتها القضاء اللبناني تركّزت على زيادة كمية ونوعية المعلومات والأدلة عبر زيادة الإمكانات العملية في التحقيق والتعاون التقني والتحليل الأفقي (68). والمقصود بالتحليل الأفقي للمعلومات هو التدقيق ومقارنة وقائع الجرائم الـ 14 والتفاصيل المتعلّقة بمسرح الجريمة وأداتها ومنفذيها والضحايا. وذلك يختلف عن التحليل العمودي الذي يتعلّق بالتخطيط للجريمة واختيار الهدف وتحضير أداة الجريمة ونقلها.
ويذكر التقرير تفاصيل عن التعاون الوثيق بين اللجنة والسلطات اللبنانية ويتحدث عن تبادل معلومات لكنها تستثني المعلومات التي “قد تؤثر سلباً على سلامة شاهد أو المصالح أو الأمن الوطني” (72). ويشير ذلك إلى غياب ثقة بين اللجنة وسلطات التحقيق اللبنانة. ويدلّ عدم قيام اللجنة بتقديم معلومات عن بعض الشهود حتى للسلطات اللبنانية على حذر شديد استدراكاً للخطأ الفادح الذي قام به ميليس في السابق عندما نشر جزءاً من إفادات الشهود، ومنهم الشاهد جبران تويني الذي اغتيل خلال الفترة التي تبعت ذلك. وقد لا يكون اغتياله مرتبطاً باغتيال الحريري، لكن بما أن اللجنة ترجّح ارتباط الجرائم الـ 14 ببعضها وبجريمة 14 شباط، يزيد احتمال ارتباط اغتيال التويني بشهادته أمام اللجنة. وبالتالي نشر شهادته قد يُعَدُّ أحد العوامل التي عرّضته للخطر، وذلك يدفع اللجنة اليوم إلى التكتم التام عن هوية الشهود حتى للسلطات القضائية التي تعاونها.
إن الفقرة 73 من التقرير تشير إلى تقديم اللجنة للسلطات القضائية اللبنانية معلومات ووثائق ونصوص مقابلات تتعلّق بالأشخاص الموقوفين حالياً وتترك للقضاء اللبناني القرار باتخاذ “الخطوات التي يراها مناسبة وضرورية”، وهي تنهي حالياً عملية التدقيق بصحّة إفادات الشهود التي أدت إلى التوقيفات وستعلم المدعي العام بالنتائج قريباً. إن نصّ هذه الفقرة يتحدّث على الأرجح عن الضباط الأربعة الموقوفين في سجن رومية وهم اللواءان جميل السيد وعلي الحاج والعميدان مصطفى حمدان وريمون عازار؛ والشهود هسام هسام الموجود في سوريا والمشتبه فيه محمد زهير صديق الموجود في فرنسا. ولا توصي اللجنة بالإفراج عن الضباط الأربعة، كما لا توصي باستمرار توقيفهم؛ وتترك الأمر للقضاء اللبناني “حصرياً” كما ذكر سابقاً في كتاب وجّهه براميرتس إلى أحد محامي اللواء السيد في السادس من حزيران 2006.
(غداً جزء ثالث)