بدأت القصة كالتالي: يتوّلى هانتر طومسون مهمة تغطية سباق خيل معروف بـ«دربي كنتاكي» لمجلة أميركية لم تكن مشهورة في ذلك الوقت، تدعى «سكانلانز»، لكن بدلاً من الكتابة عن الحدث، أي عن سباق الأحصنة، قرر الانعطاف والكتابة عن الهوامش التي تؤلف هذا الحدث، وتدوين انطباعاته لتلك الهوامش بوصفٍ غزيرٍ ودقيق، فكتب المتفرجين، عن الجمهور الذي يتشكل بغالبيته من الطبقة الميسورة المحظية بمكانة اجتماعية ترقى إلى مصاف النخب، فجاءت مقالة طومسون كذمّ وهجاء لهذا الوسط بلغة غارقة بالأدبية. ولد يومها ما بات يعرف بصحافة الـ«غونزو». لكن هل كان الفضل يعود إلى هانتر طومسون وحده؟ وارن هينكل، محرر مجلة «سكانلان» والمسؤول عن مقالة/ تحقيق طومسون كان قد عيّن رسام كاريكاتور إنكليزي يهوى رسم المشرّدين والمتسولين وغير المنتمين، اسمه رالف ستيدمان لمرافقة طومسون في رحلته ولتزويد مقالته برسومات كاريكاتورية. سيرسم ستيدمان حصاناً وسط الحلبة، يركض بكل قوته وسرعته متفجرة، يمتطيه إنسان على هيئة حصان، وسيستعمل ألواناً فاقعة، الأحمر والأسود والبرتقالي الحادّ، هكذا لن نستطيع التعرف ما يخلفه الحصان وراءه إن كانت قطرات دماء متطايرة أو حبات تراب متطايرة تتقاذف جرّاء الركض. سيعبّر طومسون عن تلك اللوحة مصرحاً: «ذلك الوجه الخاص الذي كنا نبحث عنه ... صورة كاريكاتورية منتفخة». إنه الـ«غونزو خاماً» فإذن، ورالف ستيدمان قد ساهم في ابتكار هذا الأسلوب.
(رسم: رالف ستيدمان)

بالنسبة إلى رالف ستيدمان، إن الفن هو البساطة. مستشهداً بآراء الفنان الألماني بول كلي، تدور خطوطه حول بعضها لتتشكل الملامح والوجوه، أسلوب سيخدم ستيدمان في لعبته النقدية عندما يلوذ إلى فن الرسم. لوحات رالف ستيدمان مقطوعات هجائية، وتهكمية سواء كانت سياسية أو اجتماعية. هي تعبر أولاً عن نظرته إلى العالم وتفضح بألوانها مشاعره حيال هذا العالم. تركز لوحة ستيدمان على مواضيع مثل الحرب، والجوع، والفقر، والفساد، والشمولية، وقتل الحيوانات، وتدمير البيئة، فهذه «الأمراض» الشائعة والمروّعة متأصلة في المجتمع، هي الحيّز الذي يغوص فيه ستيدمان لكي يصوّر مجتمعاً مستبعداً ومنحلاً بشكلٍ فظّ. نرى في لوحاته وجوهاً مشوهة، عناصر رمزية، وتتداخل تقنيات مختلفة مثل الألوان المائية، والحبر الصيني، والتصوير الفوتوغرافي، والكولاج، على هذا الأساس يواجه ستيدمان البؤس الصارخ، والمروّع للواقع الذي حلّ علينا. يعتبر ستيدمان أن أكثر لوحاته مباشرةً وحدّة هي لوحة «تأطير وجه ريتشارد نيكسون»، وقد استخدمت تلك اللوحة كغلاف لعدد من مجلة «رولينغ ستونز»، اعتبرت وقتها كبورتريه مكثّف يبيّن الهدوء المظلم للسياسيين بحيث تظهر اللوحة سخط ستيدمان على نيكسون باعتباره، مثل كل السياسيين، شريراً. «السلطة هي قناع العنف». لم يبرز رالف ستيدمان كرسام كاريكاتير لامع فحسب، بل برع أيضاً ككاتب ورسام ومؤلف كتبه الخاصة، فقد كتب ورسم كتابه «سيغموند فرويد» و«دوودا» كما أنه رسم العديد من أغلفة شرائط لفرق موسيقية مثل ذو هوو (The Who) ولموسيقيين مثل فرانك زابا (Frank Zappa). روحه المشاكسة دفعته إلى تصميم باليه بناءً على «لاس بروجاس دي سالين» من آرثر ميلر حيث رأى أنها تمثيل على النفاق الخفي في المجتمع، وتعبر عن اشمئزازه من الأثرياء وصناع السياسة الأميركية الذي يقول عنهم: «إنهم ينضحون بجمال بصري غاضب مشحون بطاقة هائلة مما يوقظ مشاعر الاشمئزاز لدى من ينظر إليهم لما ينقلونه». كما أن رالف ستيدمان قام في السنوات الأخيرة في تسجيل مقاطع بصوته من خلال قراءته لأعمال شعرية ومسرحية، منها لشكسبير وأخرى لشعراء مثل تيد هيوز، وقد جمعهم في ألبوم عنونه: «الرجل الذي استيقظ في الظلام».

خلق فنه من روح التجريدية:
يصف رالف ستيدمان فنه بأنه «متقلب، ومنضبط. أحياناً معقد ومثير للاهتمام حتى بالنسبة إليّ». يحمل كراسة الرسم ويرسم بطريقة عشوائية وارتجالية، ليأخذ هذه المسوّدات إلى الاستوديو الخاص به ويحولها إلى عمل فني يكون الأجدر منها هو «الأكثر إثارة للذكريات». لا يستخدم ستيدمان قلم رصاص كـ«آوت لاين» تحضيري. يدخل مباشرة بالحبر، والحبر الهندي الأسود الذي عادة ما تكون بقعه كبيرة، يلقيه على الصفحة بنقرة من الرسغ ثم يرى الصورة المختبئة داخل هذه البقعة أو يسحب واحدة منها.
يستخدم قلماً من البرونز الثقيل، فيخدش ويشوّه. يرسم حول البقعة، ويضيف إليها وعليها. يستخدم بوصلة الحبر، وأحياناً الناشر لرش الحبر على الصفحة. أحياناً تكون النتيجة سلسة ومرحة، ولكن غالباً ما تكون مظلمة ومقلقة. يقول ستيدمان: «الحادث مهم. لا أخاف أبداً من الأخطاء. الخطأ هو فرصة لفعل شيء آخر. إنه يتطور. يجب أن أرى الحبر المبلل. يجب أن أراه على الصفحة». يعبر ستيدمان عن امتعاضه لرسم الديجيتال وعن عدم قدرته على العمل بهذه الوسائط. «الرسم بالحبر الرطب لا الكمبيوتر» هكذا يعلل رأيه بعد تفحصه الكثير من اللوحات المنجزة بالتقنيات الإلكترونية التي يراها فاقدة رونق الحياة النابض من التلقائية والحرفة اليدوية.
استخدم ستيدمان أسلوب التجريدية الأشهر، أي «التدفق الحرّ» (automatism)، وفيها يتخلى الفنان عن التحكم الواعي بحركة يديه لتحاكي وحدها ما يدور في ذهنه بحركاتٍ حرة. وعليه، تنبع الخطوط المرسومة بناءً على هذا التدفق، ويلقي الطلاء ويمزج الألوان بأسلوبٍ يلامس التجريد. رسم يشبه ما فعله سابقاً اندريه ماسون حيث تبرز الكيمياء اللونية المعقدة في أعمال الفنان ماسون كمأساة تميل إلى خلق الأشكال لإثارة البهجة البصرية وإعادة النفس إلى مسارها بعد توغلها في متاهة الخطوط التي تخلقها الريشة تاركة آثارها على قوة التعبيرات التي يخوضها بديناميكية. هي جزء من لعبة اللوحة التشكيلية إذ تتحول اللوحة إلى ساحة بصرية تشاغب العناصر فيها متن اللوحة، وكأنها حرب تخاض على القماشة. وصف الفنان الميناميليّ دونالد جود مرةً أعماله التجريدية بأنها «كائنات نوعية ومختلفة». يومها وصف المفردات التي استخدمها بأنها خرقاء، لكنها الطريقة الأنسب للتعريف بأعماله. إذا تتبعنا عمل ستيدمان ومراحله الأسلوبية نستطيع أن نزجه في هذه الخانة، مع التشكيليين والتجريديين، كرسام متميّز وليس فنان «سكيتش» وكاريكاتور فحسب. نرى التجريدية في لوحات ستيدمات بأبهى حللها، نراها في الوجوه، في الخطوط الهندسية، في هيكلة الأشكال والتدفق الحرّ المعتمد و وفي المساحات اللونية كـ«ink ploating» أو ضربات الحبر.

السخرية كرد فعل سياسي :
لوحات ستيدمان لرؤساء الولايات المتحدة الأميركية، يقبض فيها على ما هو أعمق من الكائن أمامه من شخص ذو شعر مهندم وربطة عنق محكمة ورداء فخم. قلم الحبر لرالف ستيدمان هو السيف الذي جعل جيرالد فورد فزاعة، ورونالد ريغان مصاص دماء، وجورج دبليو بوش قرداً في قفص من صناعته.
يُصوَّر باراك أوباما على أنه كرمة عنيدة ورشيقة تتجه نحو الأعلى باستمرار. جيمي كارتر، بأسلوب أقل حميمية إلى حد ما، ستراه جرواً يجلب بشغف عصا يمكن من خلالها العفو عن نيكسون. أما عن ترامب فلم يكن لدى ستيدمان أي سبب للاعتقاد بأن الرجل الذي سبق وجسده على أنه خنزير بشري هجين مضغوط في سروال داخلي مطبوع عليه العلم الأميركي سيصبح الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأميركية. «ترامب لا يمكن تصوره. سفاح و متحرش. من يريده؟» قال مرة. إن بشاعة الصورة التي رسمه عليها تستحق النظر إلى ما هو أبعد مما يبدو واضحاً من العنوان «فطيرة لحم الخنزير أو الخنزير» (-Pork pie”—or porky).
هناك من عمل في نطاقٍ شبيه بذلك الذي اشتغل فيه رالف ستيدمان. نتحدث عن خوان سينتس الذي اشتهر بتجسيده هيئة «جحا» كنمط للشخصية المصرية أو مصر كأمة. صممت تلك الشخصية في فترة أزمة اقتصادية وعلاقات مصرية بريطانية مضطربة. عرف جحا من الحكايات كونه مراهق عدواني جنسياً، بطل النكات والمزاح، فيلسوف محبوب. إلا أن براعة خوان لمعت، مثل ستيدمان، في تجميعه للصفات المشتتة وضمّها في بورتريه واحد يمثّل صاحب هذه الصفات جميعها. تنظر إلى اللوحة فتعلم أنها تعود إلى شخص يجمع بين الحماقة، والحكمة، والتركيز على حركة الجسد والملبس البوهيمي الذي يعتبر قوة داخلية للناس العاديين، وهذا شبيه بالتجسيد الذي قام به ستيدمان لـ«أليس» من قصة أليس في بلاد العجائب حيث صوّر حماقتها وفضولها وسرعة انفعالها. اعتمد خوان سينتس السخرية النابعة من سذاجة جحا، كسلاح للنقد، ذلك ما فعله ستيدمان مع الرؤساء الأميركيين، لكن هنا إن بطلنا هو الضحية والساخر الباسل في آن واحد. لذلك فالطاولة تنقلب على مهاجميها، يأتي ذلك كنوع من الخيبة الحزينة للعدالة المفقودة على عكس شخصيات ستيدمان التي ينبع نقده تجاهها وسخريتها من ذاتها، ومع ذلك لم ينل خوان سينتس من النقد ما ناله ستيدمان. كرر كلاهما العيون الكبيرة، والشفاه الغليظة، الابتسامات غير المريحة، وبابتكار في كل مرة. كلاهما استبطن شر العالم ونقده بالاستهزاء، فكما تخبرنا الفيلسوفة حنة ارنت: «إن الضحك هو مقاومة ضد الأيدولوجيا والإرهاب. السخرية هي ردة فعل عندما يصل التفكير العقلاني إلى حدود ما يمكن قوله. يهرب الضحك، يفتح شقاً للحرية، يغضب حراس الأبدولوجيا، فتكون السخرية هي السلاح».