في المقطع الأول من رواية «الخوف والقرف في لاس فيغاس» يسلمنا هانتر طومسون مفتاح عالمه، ويفاتحنا منذ البداية بتأثير المخدرات الذي حل عليه وعلى صديقه المحامي «دكتور غونزو» وهما يَهمان برحلتهم إلى لاس فيغاس. السيارة أشبه بمختبر طبي فيما رأسيهما ثقيلان مليئان بالمواد المهلوسة جراء تعاطيها. هكذا، ببساطة، يستهل: «كنا في مكان ما قرب بارستو على حافة الصحراء حين بدأ مفعول المخدرات. أتذكر قولي شيئاً مثل: عليك تولّي القيادة...»الرواية التي اتّسمت بأسلوب الغونزو حيث يستمد بطلها سماته من مؤلفها، وحيث مؤلفها عاش فعلاً ما يعيشه بطله تستثير الفضول وتتركنا أمام سؤال محيّر: هل بالغ طومسون في سرده وكثّف البُعد الأدبي أم أنه أبقى حقاً على الأحداث كما هي؟ هل أنهما فعلاً، وكما ورد، قد استهلكا كميّة المخدرات المذكورة في الرواية وبقيا على قيد الحياة، يكتبون القصص ويلاحقون الأحداث، بل حتى يطلبان المزيد من الانتشاء؟ الحيرة هنا مزدوجة. هي في جانب منها معنية بتفحص مدى حقيقة السرد بينما شقّها الثاني مشتق من قدرة البطل/ الكاتب على تحمل كل ذاك الانتشاء بحال كان كل ما رواه حقيقياً.
يولد الاحتمال إذاً وتكون الحيرة شرطه. يبقى النص مفتوحاً على التأويل ولا تعرف القصة مصيراً حتمياً. فنحن، كقرّاء، لا نعلم بالضبط متى ينتهي البطل من تقمّص دور الكاتب وما إذا كان لهذا التقمص نهاية. لكن هناك ما هو لافت داخل الحيرة هذه. هناك بريق خافت يستدعي الانتباه ويشدنا للنظر إليه. الناظر إلى هذا البريق سيرى مساراً جديداً في الحكاية؛ مساحة خارجة عن طور الشك واليقين وقد شقت طريقها، هي منطقة أشبه ببرزخ السرد حيث تضمحلّ الحدود بين الواقعي والخيالي، تذوب الثنائيات وتشق مسارها الواحد بالتئامها. هذا البريق تحديداً، في عالم الكتابة يُسمى الغونزو، ومن توهج إشعاعه تبان ظلال هانتر طومسون. فلا بد لنا، إذا ما تعلّق الأمر بتوفير إجابة وافرة على سؤال «ما هو الحقيقي هنا؟» العودة إلى النقطة صفر والرجوع إلى طبيعة هذه الكتابة التي لا تحبّذ الوضوح كثيراً كما أنها لا تحب الأسئلة. فالكتابة هذه، بالدرجة الأولى، مقرونة بذاتية صاحبها وانحيازاته، بمزاجه وحواسه- التي تساهم المخدرات في تفتحها- وبأسلوبه كعملية بناء وصياغة لكل تهويمات الحواس، وترسبات الانطباعات، والأفكار التي غالباً ما ترمى في الغرف الموصودة للاوعي بينما تفيض ههنا على شاكلة جمل تسيل بغزارة. مرد هذه التقنية يعود بشكل أساسي إلى أن هانتر طومسون كان من القلّة الذين سعوا جاهدين إلى نقل ما كان يسمى بفترة الستينيات وأوائل السبعينيات بـ«سايكادليك» إلى عالم الكتابة. كان هذا النمط مستشرياً عند معظم فناني الصوت والصورة، أي في الموسيقى والسينما وحتى في الفوتوغرافيا، لكن الـ«سايكادليك» كان غريباً عن مناخ الكتابة الأدبية والصحافية فيما يقتصر حضوره، إن حضر كتابياً، على صعيد كلمات الأغاني مثل «white rabbit» لـ«جيفرسون آربلاين» (Jefferson airplane) أو «see emily play» لـ«بينك فلويد» (Pink Floyd).
يمكننا القول أن هذه النزعة (الـ«سايكادليك») التي كانت عنصراً أساسياً في أسلوب الغونزو، قد وطئت قدماها مع هانتر طومسون. الأخير كان أول من استكشف هذه «القارة» (على الصعيد الكتابيّ)، وكرّسها بعد أن كانت غير منتمية في عالم الكتابة، من ثم، جسّد كتابته المنتمية على أرضها. والغونزو أيضاً يشترط ما هو أهم، نتحدث هنا عن التجربة الشخصية التي دائماً ما تكون معيشة، أما بحال كانت نابعة من وحي الخيال، فستكون بمثابة أمنية يراهن حاملها عليها لتتحقق، بل يسعى بنفسه إلى تحقيقها. وكلما ازدادت وحشتها كلما ازداد شبق رغبته عليها وبعبارات هانتر طومسون «لا تعاطف مع الشيطان؛ تذكر ذلك. اشتري التذكرة وانطلق بالرحلة».
وبالدرجة الثانية، فكتابة الغونزو تقوم على سندين. شخصية واحدة تكتب بيدين ولكل كفّ خاصيته. الكفان متصافحان والخاصيتان بعناق دائم. فمثلما أن الغونزو هو مزج للصحافة مع الأدب، فكاتبها بدوره توليفة تعود إلى مزيج من أسلوبية كتابية بليغة، بالإضافة إلى حواس مخلخلة جراء تعاطي المخدرات. وهكذا يمكننا فهم التالي: إن كتابة الغونزو ليست مشروطة على التأثير الناجم من المخدرات فحسب، ما يعني أن الأخيرة ليست علّتها القاطعة، كما أنها أيضاً ليست نتاج الوعي اليقظ فحسب. تسري القاعدة عينها على هانتر طومسون نفسه، فهو لا يتماهى بالمطلق مع ديوك، الشخصية الرئيسية في رواية «الخوف والقرف في لاس فيغاس» لكن روتين حياته الذي أفصحت عنه الصحافية جان كارول في كتابها الذي يطاول سيرة حياة هانتر طومسون «هانتر: حياة هانتر تومبسون الغريبة والموحشة» الصادر عام 1993، صادم ويجعلك تتمنى لو كان ديوك. لقد عاش طومسون حياته على الروتين التالي:
«الثالثة بعد الظهر: يصحو. 3:05 :ويسكي مع سجائر. 3:45 كوكايين. 3:50 كأس آخر من الويسكي. الرابعة بعد الظهر: أول فنجان قهوة وسجائر. 4:15 كوكايين. 4:16 عصير ليمون وسجائر. 4:30 كوكايين. 4:54 كوكايين. 5:05 كوكايين.5:11 قهوة وسجائر. 5:30 المزيد من الثلج في الويسكي. 5:45 كوكايين. ٦ مساءً يدخن الماريغوانا للاسترخاء. 7:05 يطلب الغداء ويحتسي البيرة، كأسي كوكتيل، يأكل سلطة تاكو وسلطة مايونيز، بطاطا مقلية، قطع مقلية من البصل، بوظة وقالب حلوى بطعم الجزر. التاسعة مساء يبدأ تعاطي الكوكايين بغزارة. العاشرة مساء يتعاطى حبوب مهلوسة. الساعة 11 مساء سجائر حشيش وكوكايين. 12منتصف الليل هانتر تومسون جاهز للكتابة. 12:05 حتى الساعة السادسة صباحاً يكتب، يدخن ماريغوانا، يتعاطى الكوكايين، يشرب ويسكي وجين وعصير ليمون ويشاهد أفلاماً إباحية. السادسة صباحاً يأخذ حماماً ساخناً ويأكل وجبة «فيتوتشيني ألفريدو». الثامنة صباحاً يأخذ منوّم. 8:20 يغفو».
قارئ هذه السيرة سيصاب بالذهول. حياة هذا الكاتب الغريبة شعواء، تغدو أقرب كثيراً إلى حيوات شخصيات أبطاله، والخلاصة هي ببساطة، أنه لا وقوف عند ناصية. لم يكترث هانتر طومسون بالحدود المرسومة إنما على العكس، لقد اهتم بهدمها، بمحوها، بغية خلق آفاق أخرى أعمق وأبعد. فلا فرق إذن بين راوٍ وبطل، أو بين الواقعي والخيالي فالهم الوحيد هو بناء قصة جيّدة ومختلفة، حقيقة أكثر من الحقيقة نفسها.
ينطبق التماهي القائم بين طومسون وشخصياته على طومسون والموضوع الذي يختاره كمشروع كتابة في الفترات التي سبقت مرحلة الغونزو. وهذا يعني أمرين اثنين لا يقل الواحد أهمية عن الآخر. الأول أن الكتابة عند طومسون نمط حياة، فيما الثاني فلسان حاله يقول «أنا هو من يختار الموضوع، وسأذهب به إلى أبعد حد. فإن بدوت ذاتياً أو منحازاً فلا بأس، تقبل جنوني». لكن قبل الدخول في معترك طومسون الكتابي والصحافي الذي بدأ قبل مرحلة الغونزو، أي الفترة السابقة لنشره في المجلة السفلية «سكانلانر» مقاله الشهير «كنتاكي دربي فاسد ومنحط»، وجب التعريف بهذا المجنون قليلاً.
الاسم الكامل: هانتر ستوكتون طومسون.
اللقب: دكتور طومسون؛ ه.س.ت (H.S.T).
تاريخ الولادة:18 تموز 1938.
تاريخ وفاته: 20 كانون الثاني 2006.
سبب وفاته: الانتحار.
ومن هواياته المفضلة: الرياضة كمشاهد وكصحافي. تجميع السلاح. إطلاق النار من المدافع. شرب الكحول. تعاطي المخدرات.
دخل هانتر طومسون مجال الصحافة عندما كان لا يزال في الخدمة العسكرية. كان من الممكن أن يغدو طياراً في سلاح الجو لولا رفضه من قبل لجنة المدربين. شغر وظيفة محرر في مجلة رياضية عندما كان عسكرياً، وبعد تسريحه من الخدمة راسل هانتر طومسون العديد من المجلات الرياضية والفنية وزوّدهم بالعديد من المقالات والتقارير. لكن هانتر طومسون كان مولعاً بالرواية؛ ملهمه الأكبر كان وليام فوكنر، وكان مشدوهاً بطباع وأهواء أهل الجنوب الأميركي. مسكوناً بهاجس الرواية عمل طومسون لفترة قصيرة كناسخ على آلة الكتابة (Type writer) جراء أجر زهيد، فقط ليتعرف إلى أساليب همينغواي وفيتجرالد وتقنياتهم الكتابية. من مراسل إلى صحافي حرّ، طرد هانتر طومسون من العديد من المجلات التي عمل بها بسبب سلوكه المشاكس وغير المنضبط وبسبب عدم انصياعه لشروط المؤسسة. سافر إلى بورتو ريكو عام 1960واستقر لفترة ليعمل كمحرر لصحيفة رياضية. هناك أتم روايته الأولى «مذكرات الرَم» التي رأت الضوء لأول مرة عام 1999 وتحولت من بعدها إلى فيلم من بطولة جوني ديب. لكن مسيرته الكتابية الناضجة بدأت فعلياً بعد خمس سنوات، عام 1965، عندما نشر في مجلة «نايشن» تحقيقاً عن مجموعة ذائعة الصيت تدعى «ملائكة الجحيم»، وهم سائقو دراجات نارية خارجون عن القانون، عالمهم مجبول بالبذاءة والصخب والعنف. نال العمل الصحافي إعجاباً ومدحاً ليتلقى طومسون على إثره عروضاً عدّة، أحدها لدار نشر شهير (Random House) التي طلبت منه الاسترسال بالتحقيق وتحويله إلى كتاب، وهذا ما حصل.
لم تكن التفاصيل والتواريخ هي المهمة في سيرة طومسون، بل ما يجب التوقف عنده هو فهم زوايا مقارباته التي غالباً ما تكون ثاقبة وواقعية ونقدية إلى أقصى مدى لأنها ستسمح لنا بالتالي، من معرفة إنتاجه الصحافي-الأدبي عن كثب.
عبّر هانتر طومسون عن حلمه الكبير الذي راوده لرالف ستدمان عندما كانا يعملان سوياً في «سكانلانز»: «التبرز على الحلم الأميركي». ولو أنه لم يحقق ما كان يحلم به حرفياً، بيد أن طومسون، البارع في صنعة الرواية، قد حققه كتابياً. تنفجر هنا قوّة المجاز لتتحول شيئاً فشيئاً إلى حقيقة. هكذا تصبح الاستعارة تصريحاً ملغوماً. كان هذا في أواخر الستينيات عندما كانت الحركات التقدمية والثقافة المضادة في أوجها. ألم تكن تلك الموجة الشعبية التي حملت أفكاراً ومشاريع فنية لترضي توقعات وذائقة هانتر طومسون؟ كلا بحق الجحيم. لقد رآهم غارقين في فقاعاتهم المغلقة الخاصة، مخدرين تماماً، لم يتأثروا بشيء من شاعرية «جيل البيت»، ولم يستقوا بما فيه الكفاية من النتاج النظري والفكري الذي كان موجوداً في الكتب وغائباً عن الشارع، ما جعل من رفضهم السياسي حالة جوفاء مجحفة. إذا ما كشط الغشاء عن فوضوية طومسون وصخبه، يمكن للقارئ أن يستشف النزعة اليسارية التي مال الأخير إليها. عدا عن التصنيف بغية تعليبه، فمسألة سياسية كهذه لن تؤثر عليه ولا على تموضعه (السياسي والثقافي) بشيء. لن تزيد مثلاً من حدّة نقده لريتشارد نيكسون أو أي سيناتور من سيناتورات ولاية سان فرانسيسكو. إن حالة الرفض التي كان يتمتع بها لا تحتاج إلى انضمام حزبي أو تدجين كالذي يوفره التنظيم الأيديولوجي. المهرطق بالسياسة الأميركية، والمشاكس الذي زعزع كل أشكال الأنساق، هو المطرود من قيادة الطائرة، كاميكازيّ جامح، أخذ من السرد بديلاً عن الطيران وانفجر. ولكن لتقديم القرائن، على الورقة والقلم وفي الدلائل، يجيء التالي: يكتب طومسون بإحدى رسائله إلى صديقه عام 1965 معرباً عن تعاطفه مع الحركة العمالية العالمية ويشير، في الرسالة نفسها، إلى صوابية كارل ماركس فيما يخص فلسفته حول السوق والإنتاج. وقد ظهر طومسون في وثائقي «فطور مع هانتر» (Breakfast with Hunter) يرتدي قميصاً عليه صورة تشي غيفارا، كما أنك كنت ستجد له في مطبخه صورة كبيرة معلقة لغيفارا على الحائط. وعندما كان الحلم الأميركي في أوجه، نتحدث عن فترة الخمسينيات، كتب طومسون الشاب رسالة إلى صديقه الذي كان قد نصحه بقراءة كتاب آين راند، التالي: «لا أعتقد أنه من المهم أن أصارحك بمشاعري حيال مفهوم الفردانية. كما أعلم أنني سأعيش باقي أيام حياتي أعبر عن هذه المسألة بطريقة أو بأخرى، وأعتقد أنني سأحقق هذه الفردانية من خلال إفصاحي عنها وتحقيقها على آلة الكتابة عوضاً عن أن تتجسد (الفردانية) في الاستحواذ على الآخر وفي العنف».
لم يتأخر هانتر طومسون عن تحقيق فرديته، صوته الخاص، أسلوبه، وسرعان ما لمع نجمه. إذا ظهر أسلوب الغونزو في أوائل السبعينيات بعد إدراكه أن تحقيق هذا النمط مقرون بالتجريب؛ في مزج عناصر جمالية أدبية بالصحافة وفي شحن النص وصقله بتفاصيل حياتية معيشة، إلا أن فترة الستينيات عند طومسون مثلت ذروة الكتابة الصحافية- والتي تنتمي أيضاً إلى تيار الصحافة الجديدة- وشكلت البوادر الأولى في الشكل والمضمون، لمشروعه الذي بات يسمى «غونزو». فبينما كان روّاد الصحافة الجديدة أمثال توم وولف وغاي تايلز ينتقون قصصهم بداعي الفضول، أو يكتبونها منطلقين من تقارير وأخبار، فقد شرع طومسون إلى كتابة قصص الذين يشبهونه، متجهاً نحو ظواهر تستثيره، تحاكيه، تقول له: «تعال والتقي مع نفسك، انت هنا». كتابه «ملائكة الجحيم: ملحمة غريبة وفظيعة» لا يقلّ أهمية عن كتاباته الغونزو التي بلغت أوجها في كتابَي «الخوف والقرف في لاس فيغاس» أو «الخوف والقرف من الحملات الانتخابية72».
صرّح طومسون إبان كتابته «ملائكة الجحيم»: «بلغت مرحلة حيث لم أعد أعلم إن كنت أكتب عنهم أم أنني بتّ واحداً منهم». أمضى الأخير نحو سنة كاملة يرافق مجموعة سائقي الدراجات النارية (المعروفين «بملائكة الجحيم») الذين كانوا يعتبروا آنذاك أحد أشرس عصابات أميركا وأخطرها. خلال إنجازه للكتاب، لم يضع هانتر طومسون رجلاً على رجل مكتفياً بنسخ ما يراه مكتفياً بالمعاينة والمراقبة على طراز عمل المراسلين، إنما انغمس في أجوائهم وعاش معهم كل تفصيل. وبقدر ما توطّدت علاقته بالـ«ملائكة» انزلق طومسون حتى انضوى تحت لوائهم. في كتابه، تراه يدوّن الأحداث بصيغة الجمع، جاعلاً من نفسه واحداً منهم، محتفظاً لنفسه بحق التشكيك، بخطابهم أولاً وبعناوين الصحف والإعلام المهيمن ثانياً (بالأخص مجلة «التايمز» و«نيوزويك»). ذلك أن هدفه أولاً وآخراً هو كتابة تاريخ «ملائكة الجحيم» بطريقة أخرى، بسردية أمينة تحفظ حقّ سياقهم وظروفهم. سردية سندها قائم على الجوهر، على الماهية، وليس على الصورة الشائعة أو الصيت الذائع. هذا يعني أن دراسته لـ«ملائكة الجحيم» جاءت بعد توغله ميدانياً مع هذه المجموعة، متفحصاً تلك «الظاهرة» ومستدلاً عليها. هكذا، كشف طومسون ملامح «شخصية» الفرد المنضوي في «ملائكة الجحيم»، على معادلة أن المرء بالأساس هو كائن متناقض، وعليه، كل حكم لا يأخذ في الحسبان شرطَي «الآن وهنا»، وفي حالة «ملائكة الجحيم» التهميش والعزل، كدافع أساسي وراء عنفهم وسخطهم، هو حكم عشوائي لا يعوّل عليه. لقد كانت الأعمدة التي ارتكز عليها تحقيق طومسون دراسة شخصية الجماعة انطلاقاً من مزايا أفرادها ومن الحسّ المشترك على الصعيد الداخلي للجماعة، أما في الشكل فقد درس هيئتهم وإطلالاتهم ولغتهم. باختصار، عمله كان استنباطاً للهوية ودراستها.
لقد علِم طومسون منذ البداية أن أميركا تتعامل مع «ملائكة الجحيم» باعتباطية، وبسلوك سياسي طابعه «أميركي». تنظر إليهم كـ«عدو شرس وفتاك يهدد المجتمع» بينما هم فعلياً، عدوّ وهمي. هم في الواقع ليسوا سوى أبناء الطبقات السفلية، الطبقات المعدمة في أميركا. «ملائكة الجحيم» هم «الخاسرون، قليلو الحظ، المهمشون وعديمو الموهبة حيث يتطلب سوق العمل كفاءات ومهارات ليست بحوزتهم. هم الملعونون الذي كُتب لقدرهم أن يبقوا بائسين». لذلك ليست شراستهم سوى بيان رقم واحد من نظام داخلي لقبيلة تأخذ من العنف تبريراً لتشيّد حضارتها. لم يدافع طومسون عن «ملائكة الجحيم». هو لم يحوّلهم إلى ملائكة لكنه بالطبع لم يراهم شياطين الجحيم، لكنه لم يهاجمهم بالحجج السائدة كما راق لوسائل الإعلام أن تفعل بمبالغتها وزعمها بأنهم بؤرة ديستوبية. على هذا النحو، هشّم طومسون هذا الاستبداد المتأصل في تصوير من هم غير منتمين لصورة أميركا محطماً الحجة الواهية بأنهم مجتمع منعزل سيء بالفطرة. تجد براعة طومسون في تحويل مشروعه الاستقصائي إلى دراسة سوسيولوجية تعرّي المشهد برمته وتفكك علاقات القوى والطبقية داخل المجتمع الأميركي. فعدا عن تشخيصه السيكولوجي لـ«ملائكة الجحيم» متبعاً منهجية متينة تنطلق من أزيائهم، تسريحة شعرهم، وصولاً إلى نسبهم، عمدَ هانتر طومسون إلى دراسة هذه الجماعة باعتبارها، في وجهٍ منها، متورّطة مع المتن وليس بمعزلٍ عنه، أي باعتبارهم جزءاً لا يتجزأ من مجتمع استهلاكي يستمد معرفته مما هو «قائم»، من السمعة والصورة وليس من الوقائع، يمجد البطل ودائماً ما يحتاج إلى شرير. وهذا من ضمن التحوّل الذي يفرضه أي مجتمع، فسترات الجلد، والبنطال الممزق، واللحية الطويلة والتصرف العصبيّ الفظ وحتى اللكنة، باتوا «صورة» محببة، ومطلوبة، ومستهلكة في المجتمع الأميركي بعدما أقدمت هوليوود على تصويرهم في أفلامها، واستحضار ملامح شخصيتهم كأحد «أبطالها»، حتى إن شركات الثياب ومصنعات الدراجات الهوائية راحوا يستعملون شخصية «ملائكة الجحيم» للإعلان وللدعاية، في حين أنهم («ملائكة الجحيم») لم يمانعوا وارتضوا أن يكونوا مطيّة للاستهلاك والتسليع. حجة طومسون هذه ستتوالد منها لاحقاً واحدة أخرى، في روايته «الخوف والقرف في لاس فيغاس»، تتمثل في نقده المقذع لما يسمى بالـ«ثقافة المضادة» الأميركية التي راحت تخبو مع الوقت حتى انصهرت مع السائد. في نهاية المطاف، فقد تعرض للضرب المبرح والطعن على أيدي أحد أفراد هذه العصابة بعد أن انتقد أحدهم لأنه كان يضرب زوجته.
بعد انتهائه من كتاب «ملائكة الجحيم: ملحمة غريبة وفظيعة» انصرف هانتر طومسون إلى الانخراط بأجواء الثقافة المضادة من بابها العريض. نظّم حملات ضد الحكومة، ندد بحرب فيتنام، واكتشف الغونزو. عام 1970 ترشح للانتخابات عن ولاية كولورادو وخسر بفارق ضئيل. في السبعينيات تفرغ للكتابة «غونزوياً» وللانقضاض على موقع ريتشارد نيكسون، ولتدمير نفسه. إفراطه قطع الطريق أمام مسيرة طويلة له. ملاكمة القرن أو مباراة «مواجهة الغابة» التي جمعت محمد علي كلاي بجورج فريمان عام 1974 فشل في تغطيتها بسبب غرقه بالكحول والمخدرات في الليلة الماضية. عام 1975 ذهب إلى سايغون ليكتب عن الانسحاب الأميركي، إلا أنه عاد خالي الوفاض بسبب إفراطه في الشرب. وفي العام عينه، سجل مكالمات طويلة مع جيمي كارتر، كان من المفترض تحويلها إلى قطع صحافية، لكنها لم ترَ الضوء بسبب إهماله، إذ أضاع شرائط التسجيل وكل ما يتعلق بتلك المكالمات. إذا أحصيت المقالات التي كتبها في الروزلينغ ستونز بين عامَي 1982 و2005 فهي لا تتعدى العشرين مقالة. وهكذا، فالعديد والعديد من المشاريع الفاشلة وغير المنجزة، يمكن إخبارها شفهياً على شكل قصة قصيرة مأساوية، كان مؤلفها هانتر طومسون. يمكننا فهم هذا، في وجهٍ ما، على أنه انهزام للكاتب أمام الكتابة، بعد أن أعلى الكاتب من شأن أحداث حياته على حساب أحداث نصّه.
عام 1964 رفض محرّر مجلة «أوبسيرفر» مقالة نقدية لطومسون تطال كتاباً يضم نصوصاً عن توم وولف. عانى طومسون من صدّ المحررين، وعندما برز نجمه ككاتب بات بدوره، محط صدّ للمحررين. لكن مشكلته مع التحرير كانت أكبر من مشكلته مع المحررين. طومسون لم يكن يوماً راضياً على أي عمل كتبه. كان يرى، على غرار آلن غينسبيرغ أن «الفكرة الأولى هي التي يجب أن تؤخذ بجدية وتُكتب»، وعلى غرار جاك كيرواك حيث الكتابة غزارة ميكانيكية يقودها الصوت، لذلك كان على قناعة أن كل تعديل هو بمثابة لجم، تشويه، وهذا في عالم الكتابة تشويه وضرر. كان يرى أن الحذف المقرون بعملية التحرير لا يشذّب بل يمحي، وبالتالي فالتحرير هو بطش لرشاقة المكتوب، يطفئ توتّر النص ويمنعه من التوهج.
ولكن إذا كان الكاتب المتماهي مع نصه يرفض عملية المرافقة لتحرير نصه، ألا يعني هذا، بشكلٍ ما، تمسكاً مبالغاً بالحرية؟ الحقيقة بأن الحرية عند طومسون لا حدود حقيقية مثل واقعة انتحار هيمنغوي لكن يقع الالتباس حول مدى حريته مع نفسه. بقي هانتر طومسون لمدة طويلة، روحاً زاهقة مرهونة لرعشة المخدرات، وثمالة الكحول، والكثير من طلقات الرصاص الفارغة التي كان يتسلى بإطلاقها من بنادقه. ظلّ خوفه من السأم يكبّله. في 22 شباط عام 2005، بعد حديث سريع على الهاتف مع زوجته، سمعت طرطقة. اعتقدت زوجته أن الصوت ناجماً من الآلة الكاتبة، فيما أولاده الذين يجاورونه في الغرفة الموازية خالوا أنها ضربة سببها إغلاق الباب. انتحر هانتر طومسون عن عمر ناهز 67 عاماً واضعاً طلقة واحدة في رأسه من بندقية صيد. بووم. طلقة واحدة. انتهى. وأنهى معه كل شيء باستثناء ورقة بيضاء تحمل كلمة واحدة وجدت على آلته الكتابية: «مستشار». بعد فترةٍ وجيزة، نشرت مجلة «رولينغ ستون»، مقطعاً قد كتبه هانتر طومسون لزوجته، اعتبر بمثابة رسالة انتحار، وفيه كتب التالي: «توقفت المباريات. توقفت القنابل. انتهى التجوّل. انتهى المرح. لم يعد هنالك سباحة. 67. هذا يعني سبع عشرة زائدة على الخمسين. سبع عشرة أكثر مما طلبت واحتاجت. ضجر. أنا دائم التذمر. لا تسلية لأحد.67. أنت تتحول إلى جاحد. تصرف كما يليق بعمرك. استرخِ- لن تتألم». بعد مرور عدة أشهر، في 20 آب من عام 2005، أقيم لهانتر طومسون مأتم صغير مغلق حيث قذف رماده من فوهة مدفع كبير كان يمتلكه، وقد حضر الجنازة أصدقاؤه المقربون، منهم جوني ديب الذي كانت تجمعه به علاقة وطيدة والذي مثّل أفلاماً جسدت رواياته، صديقه وزميله رالف ستيدمان، جاك نيكولسن وشون بن وغيرهم. ترك هانتر طومسون الكثير من الأعمال القاصرة، وخلّف وراءه العديد من الأعمال المُنجزة التي لا نزال حتى اليوم نكتشف مدى حذاقة أفكارها وفصاحة أسلوبها، ترك لنا أيضاً نفسه؛ لا كقدوةٍ بل ككاتبٍ متميز، كذكرى، وكـ«مستشار»: «لا يجب أن تكون الحياة نزهة نحو القبر مع رغبة الوصول سالمين، محافظين على أجسادنا بل علينا أن نستنفد أنفسنا، علينا أن ننزلق في غيمة دخان، أن نصل منهكين تماماً، ونصرح صادحين: يا لها من نزهة!».