«باي باي طبريا» (82 د ـ 2023) هو الوثائقي الطويل الثاني لمخرجته لينا سوالم التي حصدت التقدير منذ بدايتها. تقدير تُرجِم بجوائز عديدة في مهرجانات العالم. لينا سوالم، فرنسية من أصول جزائرية وفلسطينية تبعاً لوالديها، أبدعت في فيلمها الأول «جزائرهم»، الذي تناول الاستعمار الفرنسي للجزائر والجزائريين الذين استمرّت حياتهم في فرنسا بعد التحرير والاستقلال، حيث حلم العودة المعلّق وألم الغربة وتشكُّل ذوات جديدة منهكة متلاشية حتى في يومياتها، إلا أنها لم تفقد جمال روحها وحساسيتها ونبضها الجزائري. كل ذلك عبر معالجة المخرجة لانفصال جدتها وجدها لأبيها بعد حياة مشتركة دامت 62 عاماً، بأسلوب سلس رقيق ولغة سينمائية جميلة. لكن الأروع أنها استعادت لهم «جزائرهم»، ولم تقدمها فقط صوراً عبر زيارتها وتصويرها لقريتهم في الجزائر، أو عبر استعادة الروابط العائلية مع أبناء وبنات العموم، وإنما ابتداءً من عنوان الفيلم، أعادت لهم الحق في بلادهم وجذورهم ليُعيدوا تذويتها رغم البعد والأحكام المسبقة والجروح.كم كنا نتمنى أن يكون فيلمها الثاني ـ ابتداءً من العنوان ـ «باي باي طبريا» استعادة وتعزيزاً للروابط مع فلسطين بدل القطيعة والتسليم، وإن أعربت المخرجة في أحد لقاءاتها الإذاعية أن القصد من العنوان غير ذلك، ونوّهت إلى أن العنوان لا يقصد الفراق وإنما «الرحيل والإياب المتجدّد وتشكيل ذكريات جديدة في كل مرة». كشفت المخرجة بنجاح وقوة ووضوح في فيلمها الأول عن السياق التاريخي والكولونيالي الذي شكل مصائر شخصيات الفيلم وأفراد العائلة، وأعادت الكرة في فيلم «باي باي طبريا» لكشف النقاب عن قصة تهجير وشتات فلسطينية أخرى هي تلك المتعلقة بعائلة والدتها، الممثلة والمخرجة المشهورة هيام عباس، التي ولدت في قرية «دير حنا» بعد النكبة والتهجير والشتات الذي طال العائلة في طبريا كما طال أهالي فلسطين جمعاء. لكن يحضر السؤال بقوة عن مكانة «دير حنا» وغيابها من العنوان مثلاً! فهل استمرار عروبية القرية (رغم وجودها هي أيضاً تحت سقف الدولة العبرية) حتى اليوم يجعلها في مأمن من التخلّي أو تجدّد اللقاء، أو أن ضرباً من الاستسلام لحاضر مدينة طبريا الاجتماعي والسياسي (في الحياة كما في الاتفاقيات) يجعلها بعيدة المنال وبالتالي مسرحاً للحنين!
ولكي يعدل المقال بحق «دير حنا»، أو «دير حنه» كما سمّاها الصليبيون، يتوجّب التذكير بأنها أحد أقطاب مثلث انتفاضة يوم الأرض (سخنين، عرابة ودير حنا) عام 1976. ووفقاً لـ «موسوعة القرى الفلسطينية»، يُقال بأنّ اسمها يعود إما إلى «اسم قدّيس مسيحي، أو إلى قرية يوهانا أو حانون التي كانت موجودة حتى عام 732 قبل الميلاد ثم مرة أخرى تحت الحكم البيزنطي؛ أو إلى شخصية صليبية غزت المنطقة أو إلى مريم العذراء». يشير مرقص المعلم، في المصدر نفسه، إلى أن الاسم يعود إلى دير بناه فرسان القديس يوحنا المعمدان، وهم جماعة عسكرية صليبية، وقد تبنى ظاهر العمر هذه التسمية. أما بحسب الباحث ميخائيل آفي يونا، فيعود أصل تسمية القرية إلى الرومان الذين سمّوها «كفر يوحنا»، وقد تبعت إدارياً لصفورية آنذاك.
لا شك في أن قضية الفيلم الكبرى، بعيدة عن «فلسطين القضية»، فهي تكمن في الغوص في موضوع غاية في التميز والأهمية، حول هويات أبناء وبنات الأزواج من ثقافات مختلفة، الذين يستقون جزءاً من تاريخ أهاليهم فقط ويكون عليهم مواجهة عدد من الأسئلة الوجودية وملء فراغات تنتج منها مع بلوغهم ومواجهتهم للعالم. مَن وإلى مَن وأين أنتمي؟ وإن كنتُ نتاج توليفة من قصتين وعالمين، إضافة إلى عالمي الخاص، فكيف لهذه التوليفة أن تتشكل؟ وإلى أين أمضي بها؟ والتوليف هو شريان السينما الأعظم، وإن تضرّر، ذهبت هوية الفيلم أدراج الرياح، باختلاف هوية الإنسان التي تحكمها أمور ومسابقات عديدة أخرى.
أكدت المخرجة مراراً في أحاديثها الصحافية عن اختيارها، في فيلميها، تتبع القصص العائلية لوالديها عبر التركيز على التواصل مع النساء كونهن حارسات الذاكرة، ومن يعمل على إحيائها وتمريرها إلى الآخرين. لا شك في أنّ أدوار النساء في الفيلمين حاضرة ومتميزة، مع أنّ المعالجة الصورية السينمائية والقصصية في «جزائرهم» تألّقت مع الجد والأب أكثر منها مع الجدة رغم روعة شخصيتها وحضورها، وبالتالي، فالحديث هنا يستقر في «نسائية» الطرح وليس في «نسويته». ويؤكد ذلك الفيلم الثاني الذي تمحور حول قصة هيام عباس الشخصية المدعّمة بقصص نساء قويات حاضرات في الذاكرة. وللأسف بقي الحضور النسائي الكبير على الشاشة صورياً، فمن يعرف هؤلاء النساء شخصيّاً، يعلم أن نضالاتهن الحياتية الاجتماعية والسياسية الوطنية كنوز مخفية، ويحزن فعليَاً لعدم الإضاءة عليها. لا تحسد هيام عباس، على الموقع الذي وضعت به راضيةً للإجابة عن أسئلة ابنتها المخرجة، فهي الخبيرة بالوقوف أمام الكاميرا لتجسيد شخصيات يصعب إحصاء عددها، وجدت نفسها أمام أعين ابنتها وأسئلتها من ناحية، وأمام كاميرتها التي ستنشر علناً قصتها الشخصية المجبولة بالذكريات والنجاحات والإخفاقات والفقدان. ومع حنكة الممثلة وخبرتها، وجدنا أنفسنا نبحر في ثنايا حياتها الشخصية، إلا أننا عدنا إلى الشاطى عطشى من دون إجابات. بطبيعة الحال لا يمكن التوقع من أمٍّ أن تكشف تفاصيل قصتها كاملة لأبنائها أو من شخصية عامة أن تتبرّع بخبايا روحها للجمهور العريض. لذا بقيت الشخصية «الوثائقية» في منطقة المابين.
تمركز الفيلم بين كونه فيلماً يتتبع قصة الممثلة، والدة المخرجة، وبين أسئلة المخرجة ذاتها حول طفولتها وأصولها، وبالتالي هو ليس فيلماً سياسياً أو يُعنى بالسياسة، لكنه وقع في مطبّ السياسة. رغم إدراكنا بأنّ صناعة الفيلم تحتاج إلى سنوات من العمل، وأن تاريخ ولادته يتقرّر مع اكتماله فقط، إلا أن الظروف والسياقات تفرض الواقع. ولا شك في أنّ حضور أي فيلم أو منتج، من أي مجال كان، وخصوصاً في سياق أحداث فلسطين الحالية هو أشبه بالوقوع (غير المخطّط أو المرغوب طبعاً) في منافسة عقيمة وظالمة وخاسرة للطرف الأول في مقابل الإبادة اليومية، ولا سيما مع تجاهلها في المنتج المعروض على الشاشة أو في المساحات الإعلامية المرافقة. ولو كان «باي باي» أكثر تماسكاً ووضوحاً، لما وجد نفسه في مثل هذا المطب مقابل «فلسطين» المفردة والقضية الأكثر قداسة ورواجاً في العالم أجمع، فالمحبة وحدها لا تكفي للحياة. كما لا ينتهي الفيلم بالكتابة، فهو أيضاً لا ينتهي بالتوليف والعرض، وإنما يستمر العمل فيه طالما استمرينا في تناوله وشرحه في المنصات الإعلامية الترويجية وكثيراً ما نواجه مطبات صحافية تأخذنا فيها النشوة أو عدم التركيز، أو الثقة اللامبررة بالآخر، وندلي بتصريحات لا تجد بالضرورة مصداقيتها في العمل السينمائي المطروح.
ومن هنا نعود إلى أنّ دراماتورجية العمل وتوليفه من ناحية، والتصريحات التي يقوم بها المخرجات/ ون حول إنتاجاتهم، التي هي من أسس العمل السينمائي الذي يسعى إلى التواصل، خلال صناعته وما بعد انتشاره، تعود بالسوء على الفيلم إن لم تتماشى مع العمل المطروح، وخصوصاً أنّ المشاهد يلتقي وحيداً مع الفيلم من دون تواجد صنّاعِهِ.
تجنّبت ممثلة الفيلم الإجابة عن أي سؤال يتعلّق بـ 7 أكتوبر في الإعلام الأجنبي


حشود عالمية تعمل في فترة الإبادة التي نعيشها حالياً على استغلال أي منصة إعلامية ممكنة من أجل رفع صوت غزة، وصوت شهدائها وأحيائها وأشلائها وآمالها من ناحية، والحق الفلسطيني التاريخي ومعاناته من ناحية أخرى، لذا فإن تجاهل كل المقابلات الصحافية حول فيلم «باي باي» لهذا الواقع، خلقَ شرخاً آخر مع مشاهديه، سواء قبل أو بعد مشاهدته. وعلى سبيل المثال فقط، يأتي ما ذكرته صحافية «راديو فرانس» في مقابلة الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) 2024 على لسان الممثلة وبحضورها: «قلتِ أنك لا تريدين الحديث عما حدث في أكتوبر لكي لا يؤثر ذلك على الفيلم»، ما خلق شرخاً يصعب التسامح معه أو شرحه إلا بالنظر إلى -إمكانية- ما يترتب على تقدّم الفيلم لجوائز الأوسكار لعام 2024 بترشيح من قبل دائرة السينما في «السلطة الفلسطينية». وهذا المطب السياسي عويص أيضاً، نظراً إلى موقع وموقف السلطة الفلسطينية الأوسلوية من الإبادة في قطاع غزة وتبعاتها في الضفة الغربية عامة، التي تتقدم بأفلام سينمائية منذ سنوات لجوائز الأوسكار الأميركي الذي يشارك مشاركة فعالة في إبادة الشعب الفلسطيني منذ بداية الحكاية، كأننا على متن طائرة في سماء القطاع، تُنزل الصواريخ من بابها الأمامي والمعونات من الخلفي.
كان باستطاعة «باي باي طبريا» بمضامينه ونجومية شخصيته الرئيسية، الصمود في وجه الآلة الإعلامية العالمية القامعة المرتبطة بالسلطات كي يمرّر مضامين «نضالية فلسطينية». لكنه أخفق لأن مضامينه لم تتجاوز كونها حكاية فلسطينية شخصية أخرى من حكايات وآلام الشعب الفلسطيني، ومن هنا كان حرياً أن يعلو صوت القائمات على الفيلم لوضع النقاط على الحروف، وخصوصاً مع حملات المساندة الشعبية والدعم المتزايد في شوارع العالم كما لدى محبي ومتابعي السينما.
رغم كل ما سبق، من حق هذا الفيلم أن يحيا، ويتم الترويج له ومشاهدته ومناقشته، ولا غبار على وطنية المخرجة والتزامها السياسي والأخلاقي تجاه فلسطين أو بمواقفها المتعلقة بقضايا نضالية عالمية أخرى، إضافة إلى أنّه من الإجحاف والعبثية أن يطالب كل فرد من أفراد شعب ما الالتحام والنضال من أجل الهم الجماعي. للفلسطيني الحق أن لا يشارك في النضال الجماعي، لكن إن حدث وشارك، فعليه التمتع بأكبر قدر من الإصغاء، من أجل ضمان لحمة الجماعة الفاعلة واقتفاء أثر الدرب النضالي المختار، لكي لا نكون عثرة (من دون قصد) في طريق من اختار النضال من أجل الهم العام.