من المؤكّد أنّ نشأة الرواية العربية تحتاج إلى المزيد من التمحيص التاريخي والنقدي. المغربي سعيد يقطين نقّب بحثاً عن النصوص الروائية الأولى، ليخرج برواية «بديعة وفؤاد» التي سبقت «زينب» حسين هيكل بثماني سنوات
ياسين عدنان
«في إحدى ليالي الصيف خرج سرب من فتيات إحدى قرى لبنان للاستملاء من عين القرية الواقعة على نحو مسافة ميل من البيوت في قرار واد عميق. وكان بين هؤلاء الفتيات اثنتان تفوقان أترابهما جمالاً وتَفضُلانهن حُسناً واكتمالاً كما يفضل القمر والشمس الكواكب. وكانت إحداهما في السابعة عشرة من عمرها، بيضاء اللون، سوداء العينين والشعر والحاجبين، معتدلة القوام، نحيلة الخصر، صغيرة الثغر، مُتَّسِقة الأسنان. وكانت الأخرى في العشرين..».
البنتان ليستا سوى بديعة ولوسيا بطلتي رواية «بديعة وفؤاد» التي أصدرتها عفيفة كرم سنة 1906 في الولايات المتحدة وهي بعدُ في الثالثة والعشرين، أي تقريباً في سن بطلتي روايتها. حدث قبل ثماني سنوات من صدور «زينب» رواية حسين هيكل سنة 1914، العمل الذي يؤرخ به نقاد الأدب عندنا لنشأة الرواية العربية. فهل تاريخنا الأدبي ناقص إلى هذا الحد؟
من المؤكد أنّ نشأة الرواية العربية ما زالت تحتاج إلى المزيد من التمحيص التاريخي والنقدي. وإذا كانت «بديعة وفؤاد» صدرت سنة 1906 في أميركا، فإن اللبنانية لبيبة هاشم التي كانت تعيش في مصر نشرت سنة 1904 رواية «قلب الرجل»، فيما أصدرت زينب فواز، اللبنانية أيضاً، أول عمل روائي عربي سنة 1899 بعنوان «حُسْنُ العواقب أو غادة الزهراء». المشكلة اليوم هي أنّ أغلب هذه النصوص لا تُتداول في الوسط الأدبي والصحافي العربي إلا كعناوين وأسماء وتواريخ، فيما المطلوب هو العودة إلى النصوص لقراءتها وتحليلها وإعادة قراءة تطور الرواية العربية على ضوئها.
إنما أين هي هذه النصوص؟ هذا السؤال حاول الناقد المغربي سعيد يقطين الإجابة عنه بإعداده للنشر رواية «بديعة وفؤاد» التي عثر على نسخة من طبعتها الأصلية الصادرة عن مطبعة جريدة «الهدى» اليومية في نيويورك في المكتبة الوطنية في الرباط. هكذا يصدر هذا العمل لأول مرة في العالم العربي بدعم من وزارة الثقافة المغربية ضمن منشورات «الزمن» بعد مرور قرن كامل على صدور طبعته الأولى. ويلاحِظُ سعيد يقطين في تقديمه للرواية أنّ عفيفة كرم «بذلت مجهوداً كبيراً في بنائها وتنسيق مكوناتها وانسجام فصولها من نقطة البداية حتى النهاية. وقامت بعمل هام في تشكيل عوالم الشخصيات، وتقدَّمَت بالتدريج في تكوين خصوصياتها ورسم ملامحها بتوظيف دقيق للسرد والوصف والحوار». ورغم أنّ «بديعة وفؤاد» هي باكورة أعمال عفيفة كرم، ورغم أنها كتبتها وعمرها 23 سنة فقط، إلا أنّها تبقى، حسب يقطين دائماً، «رواية متكاملة البناء تتميز بلغتها المتينة وثقافة صاحبتها الغزيرة ووعيها المبكر بالفن الروائي وخصوصيته».
تتوزع الرواية على 44 فصلاً، تبدأ بوقوع فؤاد في غرام بديعة والدسائس التي ستحوكها أمه وابن خالته للتفريق بينهما والحيلولة دون زواجهما. لكنّ بديعة ستهاجر إلى أميركا حيث ستعاني من حياة الغربة الأمرَّين. ومع وصول فؤاد وابن خالته إلى أميركا، ستتواصل الدسائس والمكائد. وكما يجدر بمُتخيَّل بنت في مُقتبَل الحلم، ستعرف الرواية نهايتها السعيدة بزواج بديعة وفؤاد بعد عودتهما إلى أرض الوطن.
في تقديمها لروايتها «النسائية الغرامية» أهدت عفيفة كرم العمل لمدير جريدة «الهدى» الذي ساعدها على بث آرائها وإبداء أفكارها على صفحات جريدته. وكان له دور في تمكينها من فترة التفرّغ لكتابتها التي دامت ستة أشهر. وفي الختام، تكتب عفيفة، «أنبّه القراء الكرام إلى أنّ روايتي هذه هي باكورة مؤلفاتي، وأنّها لامرأة سورية، وأن ما يباع منها بعد أداء أجرة طبعها يكون للإحسان. وأن كل سيدة مشتركة في «الهدى» لها حق بنسخة منها ترسَلُ إليها مجاناً. فإذا لم تصلها، يجب أن تطلبها مني أو من إدارة «الهدى». وما هذا إلا بعض الواجب عليَّ من الخدمة العامة وبعض الدليل على حسن القصد، وأنا لكم سيداتي وسادتي القراء المخلصةُ في خدمة الوطنية والآداب». وبه وجَبَ الإعلام والسلام.