اللوحة طريقاً إلى الذات المفردةأحمد الزعتري
عنوان معرضها هو «آفاق جديدة»، إلا أنّ الزائر سرعان ما يرى أنّ لوحات نوال العبد الله (1951) ما هي إلا «استكمال لتجربتها الفنية والطبيعة» على حدّ تعبيرها. وليس في هذا انتقاص مما تقدّمه هذه التشكيلية الأردنية التي تنذر ريشتها للعفوية، وليس المصادفة التي تجيء ــــ كما ترى ــــ على السطح التصويري... فيما العفوية تخرج من الأعماق. لطالما تعلّقت نوال بالطبيعة التي في مخيلتها، ولطالما احتلّت الطبيعة وفراغ اللون موقع الصدارة في تجربتها الممتدة منذ السبعينيات، بعدما درست الفن في فلورنسا (1978). إذ إنّ الشكل لا يخرج من التجريد بل من اللون، بحسب العبد الله.
في المعرض الذي يبدأ في 24 الشهر الحالي في غاليري «رؤى» في عمان، ويضمّ 24 لوحة، تجمع الفنانة المصادفة والعفوية. علاقة طردية تجسّدها ريشتها، فما تبدأه العفوية من الخطوط البسيطة واللاواعية، تستكمله المصادفة التشكيلية. وفي اللوحة، يشتبك كل هذا مع لحظة الإدراك للقيمة الجمالية والتعبيرية والفنية للعمل.
هناك انتقال لوني مباغت، واختلاف مزاجي من ألوان ترابية باردة إلى نارية حارقة في اللوحات (متوسطة الحجم). قد يكشف ذلك انفعاليةً مرتبطة بالمكان، كأن اللوحات تحسّ، تقول العبد الله «أنا أحس ثم أرىالأولوية ليست للوعي بموضوع اللوحة، بل إنّ الانفعال بكل عماه وفوضاه، والشعور بما يضفيه من تضليل، هما العصا التي تهتدي بها العبد الله إلى موضوع لوحاتها. إذ يمثّل إحساسها مرجعيةً بصرية لها. إنّها تتقصّد من فنّها اكتشاف روحها، وبالنسبة إليها «لا شيء يشير إلى الروحانية أكثر من الذهاب إلى الذات المفردة».
في بداياتها، اختارت العبد الله التي تتلمذت على يد رائد حركة التشكيلية الأردنية مهنا الدرة، الرسم بالزيت والأحماض والأصباغ، وجرّبت لاحقاً استخدام الإكريليك والغواش، لأنّ السرعة في جفافه على السطح التصويري تمكنها من «ملاحقة ما يدور في أعماقها من خيالات وصور ومن ثمّ تسجيلها». وفي « آفاق جديدة»، يتجسّد التجريد اللوني بالإكريليك على الكانفاس حيناً وعلى الورق أحياناً.
اشتغلت نوال العبد الله بالفعل على مناطق مختلفة، وامتازت عن أبناء جيلها، بعزلتها وانهماكها بعملها، ما جعلها الفنّانة الخارجة عن السائد الذي يبتذل حضوره في كل شيء. هكذا كانت لوحاتها تشبهها: منعزلة بشخوص بعيدة وغامضة، وأمكنة صامتة كأنها تخبئ سراً. ليس ثمة مركز، اللوحة كلّها خطوط مندمجة لا تؤثر الفنانة إبراز أحدها على الآخر، مثلما يظهر في إحدى لوحاتها التي تتسيّدها ألوان الترابي المصفرّ والزيتي الباهت والرمادي، كأنّها الصحراء في يوم شتائي. كل هذه الألوان مخطّطة بحدود مستقيمة، ثم يحضر الأزرق، اللون العزيز على قلب هذه التشكيلية، ليكسّر هذه الكآبة بضربة لونية قوية ومنحنية، وفي البعيد يظهر شخص ضئيل يسير وحيداً في العراء.
منذ بدايتها، اشتغلت العبد الله على الطبيعة أولاً ثم الشخوص، ومرت بتجربة الفراغات والأشكال الهندسية والخطوط القاسية وكتل مبهمة حاضرة بكامل تفاصيلها التي تبرزها الفنانة بعنف ضربتها على اللوحة. وفي هذا الإطار، وصف الأستاذ الناقد الفني في كلية الفنون في الجامعة الأردنية مازن عصفور تجربة العبد الله بأنّ «المواضيع التي تقدمها اتّصفت بتمحورها حول المنظر الطبيعي والشخوص الإنسانية، وما لبثت بعد هذه المرحلة من تجربتها أن تناولت المعالجة التجريدية البحتة في سياق بنائية شبه هندسية مفعمة بالحركة والطاقة وتسجيل الانفعال الخطي واللوني المباشر، عبر ضربات قوية بفرشاة خشنة عريضة، مع قدرة خاصة على تنظيم العلاقة بين الكتلة والخط واللون في تكوين مترابط متناغم».
في بعض لوحات معرضها، نشاهد تفاصيل لأشكال نباتات أو ظلال أشخاص غارقة في الهدوء... لكنها غير واضحة، وهناك تفصيل صغير لم يكن واضحاً في أعمال العبد الله السابقة وهو اعتناؤها بالخط الذي يحدد كتلة ما أو يؤطّرها. البعد يبدو في لوحة العبد الله كأنه عمودي فقط: الأشجار طويلة والطبيعة فارعة، حتى الضوء والظل يُشعران المتلقي بأنه أمام سقوط عمودي لهما على الأرض. إنها تجمع بين الجسد والأرض في مساحة تأمّل عميقة، وتريد لمتلقّيها أن يشاركها فيها: «أرغب بأن يشعر المتلقي بما أشعر به، لأنه جميل وشفاف، فيما لا أسعى إلى إيصال «رسالة» من خلال اللوحة، ويسعدني أن يدرك المتلقي لوحتي التجريدية على هذا النحو».
كيف نصف جديد العبد الله إذاً؟ إنه أقرب إلى ضوء يستحم في لوحة، أو فراغ يحتفظ بصمته، الضوء بحضوره الخافت أو الساطع يلغي العتمة تماماً من لوحاتها، كأن الليل لم يعد له وجود. فالتجريد اختزل الليل من أعمال العبد الله، وثمة ضوء قاحل رغم انسجام كل مكوّنات اللوحة. وهذا ينطبق على المساحات الهائلة التي تمثّل أحياناً نصف اللوحة لتتركها تسقط في الفراغ التجريدي، ما يدفع، بحسب الفنانة، إلى النظر في أبعاد بصرية جديدة تنشأ من هذه العلاقة.


«آفاق جديدة» بدءاً من 24 آب (أغسطس) الحالي ــــ غاليري «رؤى»، عمّان
www.foresightartgallery.com
00962655600800