أفلامه فضاء لطرح الأسئلة: من فضح الاستعمار في «عطش» (2000) إلى شريطه الجديد الذي يدخل في النقاش الدائر حول الإسلام في العالم
الرباط ــــ ياسين عدنان
هناك مخرجون يفكّرون كثيراً في أفلامهم قبل إنجازها. بل إنّهم يخرجون تلك الأفلام، أساساً، بهدف كسب مساحات جديدة للتفكير في القضايا التي تشغلهم. والمخرج المغربي سعد الشرايبي من هذه الطينة. تجربته السينمائية انبثقت من صلب الجدل السينمائي في المغرب منذ السبعينيات، وهو أحد مؤسسي حركة نوادي السينما في بلاده. جاء سعد إلى السينما من النقاش حول السينما. لذا، حرص منذ البداية على أن تكون أفلامه مجالاً لصوغ أسئلة وطرح أفكار: نوستالجيا عهد النضال في «أيام من حياة عادية» (1990)، الدفاع عن قضايا المرأة في «نساء ونساء» (1998)، فضح الاستعمار والاعتراف بإنسانيته أيضاً في فيلمه المثير للجدل «عطش» (2000)، جحيم المعتقلات السرية في المغرب خلال سنوات الجمر «جوهرة» (2004)، وأخيراً «إسلام يا سلام» فيلمه الجديد الذي أكّد من خلاله الشرايبي قدرته الخاصة والدائمة على إثارة النقاش الفكري العميق.
ينطلق الفيلم الذي كتب له سعد السيناريو مع فاطمة الوكيلي، من النقاش الدائر حول الإسلام، مُعتقَداً وسلوكاً وثقافة، في مجتمعاتنا العربية وفي العالم. ويستعير للخوض في مثل هذا النقاش قصة مغربي عاش في الولايات المتحدة لربع قرن تقريباً، تزوج هناك وأنجب أطفالاً. لكن أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، وحالة الاختناق التي بدأ يُحسُّها مع تغيُّر نظرة المواطن الأميركي البسيط له ولحضارته، جعلته يقرر العودة إلى موطنه.
وبالفعل، عاد إلى قريته الجبلية الصغيرة في الأطلس المتوسط مع زوجته الأميركية وطفليهما المراهقين. وهناك في ضيعة العائلة، سيستعيد أمانه المفقود. لكنّ هذا الإحساس بالأمان بالضبط سيضاعف داخله رغبةً عميقةً في الاحتماء بخيمة الثقافة الأصلية، وسيتطور لديه إلى مبالغة في التديّن... هنا حيث يستطيع أن يشهر إسلامه ويعيشه بفخر ومن دون توجس. مُصالحةٌ عميقة مع الذات والجذور ستعطي أثراً عكسياً، فسلوك الرجل مع محيطه «الأميركي» الصغير سيتغيّر. وسيصير الأب الذي اعتادته الأسرة متفتحاً، حنوناً، متفهماً ومتسامحاً إلى أبعد حد، متشنجاً حادَّ الطبع ينحو بالتدريج نحو التعصب والصدام.
هكذا في سردٍ خطي للأحداث، وتفاعُلٍ صاخب للأفكار والحوارات التي كانت تتوالى بالعربية والفرنسية والإنكليزية، لم يكن سعد يغفل عن كاميراه المُوزَّعة بين تسلق أشجار السرو والأرز في تلك الطبيعة الجبلية الآسرة ورصد الانفعالات النفسية لأبطاله. أبطال يعانون الاختناق. أبطال غير مثاليين، كما هي العادة في كل أفلام سعد الشرايبي. فمصائرهم عادة ما تكون محكومة إما بالموت أو بالضياع. لذا لم يكن كافياً بالنسبة للأب أن يدمن على الاستماع إلى الأشرطة الدينية لكي يتوازن، بل عليه أن يدمّر تلك العفوية والروح المنطلقة لطفليه. عليه أن يقتل الحياة التي تحيط به.
إنما قبل ذلك، عليه ــــــ وهذه حكاية أخرى ــــ أن يصفِّي حسابات مريرة مع ماضيه. فالمراهِقة الصغيرة التي تعيش في الضيعة مع حارسها الصامت والغامض ليست غريبة عنه. إنها ثمرة مُرَّة لنزوة قديمة مع فلاحة مراهقة ماتت بهمِّها وتركت ثمرة الخطيئة تنضج من دون رعاية وسط الضيعة المهجورة.
«أنت مجرد إنسان خطَّاء، تماماً كالآخرين. بل أنت أفظع منهم. فلا تبالغ في القسوة على أطفالك وعلى المحيطين بك من أجل أخطاء صغيرة هي بنت الحياة التي لا تستقيم من دونها. واجه خطأك إذاً. جريمتك التي صار لها حضور فادحٌ يصعب تفاديه. حدق أيها الأعمى بوجهك القديم في المرآة».
هذه بالضبط هي أفلام سعد الشرايبي. الأفكار واضحة. والرسائل مهما حاول ترميزها تصلُ جارحة. ولهذا بالضبط نحرص على مشاهدة أفلامه، ونسعد أكثر بالإنصات إليه وهو يؤوِّلُها بطريقته. فنكتفي في النهاية باستعادة كلامه عن أفلامه في أوراقنا ومقالاتنا. تصوُّرُه لما ينجزه واضح دائماً ويعبر عنه بدقة وأناقة، حتى أنه غالباً ما يغلق في وجوهنا بذلك كل أبواب القراءة والتأويل.