كامل شياعأنا أتهيأ للعودة إلى بغداد، من المحتمل جداً أنني سأتخذ منها مستقراً. ليست لدي أوهام كبيرة عمّا ينتظرني هناك، ولا يساورني شكّ في شأن الخطوة التي أخطوها. فالخيار ذاتي وهذا أجمل ما في الأمر. مع ذلك لا أريد أن أصادر التجربة قبل وقوعها، كما لا أريد أن أتحصّن، هذه المرّة، بنوايا النفس (الطيّبة والخيّرة دائماً)، إزاء كمائن الواقع ومكر الأقدار. أريد فقط أن أواكب نبض لحظة من لحظات زمن مضطرب وواعد. ميلي للعودة بحثاً عن حياة جديدة، مرده الاعتقاد بأن الاختراق الأميركي، بما ينطوي عليه من عدوان، قد وضعنا جميعاً أمام مسؤولية صنع الحدث (وهذا لا يتحقق أبداً في شروط مرغوبة)، وتحرير الحاضر من اجترار الماضي أو سراب المستقبل.
لقد تغيّرنا جميعاً بضربة ساحر أميركي أحمق وخطر، وعلينا أن ندرك ذلك. كل الأيديولوجيات النائمة في أذهاننا تحتاج اليوم إلى زحزحة وتهشيم، كلنا مطالب بأن يرى الآخر فيه، أن يصغي للقوة المغايرة داخله حتى لو بدت هادئة وسويّة. التيارات العكسية الآتية قد تقتلعنا، لكنها يمكن أن تجذّرنا. فلو وقفنا منها موقفاً لا يقوم على الممانعة النرجسية الأثيرة لدينا (لسبب ديني أو قومي أو يساري)، ولا على ركوب الموجة الليبرالية الجديدة، سنكون، ربما للمرة الأولى، أقدر على تأسيس تاريخنا الحديث، تأسيساً خارج المدارات العقيمة التي فصلت الروح عن الجسد، والفكرة عن الواقع، واللغة عن المعنى. لا أريدك أن تحسب التطلّع إلى الآفاق تفاؤلاً... فلست أرى أمامي سوى القديم الذي ما زال يقاوم، والجديد الذي يحاول أن يناور.
(...)
سأجرّب إذاً أن أبدّل المنفى بالوطن، أو أن أبدّل متاهة بأخرى. لا تهمّني كثيراً التسميات، لأن الأمر يتعلق بالمعنى. وهو ما يبدو لي واضحاً وبسيطاً: أنا شخص عاش من موقعه قصة استمرت ٢٥ عاماً. وحين بلغت تلك القصة نهايتها، عليه أن يأتي بفعل يتناسب معها، عليه أن يبحث عن حياة أخرى. وإذا لم يحدث هذا ولا ذاك، تتحول معايشته الطويلة، بما فيها من قسوة وحرمان وإصرار وأمل، ضرباً من العبث والتفاهة. تخيل ما سيحدث لفلاديمير واستراغون لو ظهر غودو؟ لا أقصد هنا أنّ ظهور غودو ـ المستحيل على المسرح ـ ممكن على أرض العراق «المحرر»! مكان غودو الوحيد خارج المكان، أي داخل النفس.
ما حدث في العراق حدّد اختياراتي ومصيري. ولئن وقفت بعيداً عن زمن الوطن المجنون، فقد أنشأت معه علاقة ضدية ولّدتْ كل ما له معنى في حياتي. وهي علاقة من طرف واحد. خارج الذات الملتاعة، المشتاقة، الحانية والمتمردة... لا يكون للأشياء والأزمنة والأماكن، رجع أو أثر. إنها مادة خرساء، وأبعاد صامتة لا تنطق بمكنوناتها إلا حين يقيم البشر فيها. حينذاك فقط تغدو موحية وحميمة. كما لو أنها ظلال الكائن على الأرض.
سأقتفي هذه المرّة مسالك الذاكرة فعلياً. لا تلزمني الصور والخيالات، عيني فقط هي الدليل. سوف لا أكتشف بها شيئاً، تكفيني إعادة الاكتشاف. ماذا بقي من أيقونة الوطن التي رسمها شعور الفقدان؟ ماذا يربطني بذلك العالم المألوف والعجيب؟ هل سأستأنف فيه الرحلة الأولى، أم أنقطع عنه اهتداءً بطيف المنفى العنيد؟
ليس بوسع المنفيّ إلا أن يتصور حياة الآخرين الذين تركهم وراءه على درجة عالية من الاستثنائية والشذوذ. وهو لا شك محقٌ حين يسقط الوطن بين مخالب آلة قمع همجية، ويبتلى بحروب مروّعة. غير أنّ ما لا يدركه المنفيّ، هو أنّ الحياة هناك لا تتوقف رغم ما يعترضها من أهوال. فالناس كالناس لا ينفكون يسعون ويشقون، يقاسون ويأملون ويتكاثرون ويموتون... يتكيفون مع نوازل القدر، ويألفون مرارات العيش، فيصنعون منها حقائق عادية تافهة. حياتهم تتواصل رغم الانكسارات والإحباطات. يكفيهم من سبل البقاء حدودها الدنيا، ومن أسباب الأمن فواصل قصيرة. أما ما يفتقدونه، فتعوّضهم عنه عناية إلهية لا تغفل، ولا تهمل. إن قوّتهم تكمن في امتثالهم النهائي لإرادة لا مردّ لها.
ليس بوسع المنفيّ أن يقدّر ذلك التلاؤم العجيب حقّ قدره، لأنه مأخوذ بحالة إسقاط دائم، ولأنه لا يجد حاجة للتسليم بأحكام الضرورة. كيف يكون له ذلك وهو السارح في فسحة من الحريّة اسمها المنفى، الكلمة الفاصلة فيها للرأي والموقف؟ مثال المنفيّ هنا بروميثيوس حامل النار، ومثال ابن الوطن سيزيف المجنّد لغاية عبثية. المنفيّ كائن دنيوي رغماً عنه، إنساني إلى حدّ الإفراط بإرادته. وأين الوطن، المغلوب على أمره، كائن «أخروي» يسكن أرضاً خراباً، ويحلق في مدارات أسطورية.
المنفيّ كائن ميتافيزيقيّ أصيل، يراهن على الانتظار ويوقف له سنوات العمر مترقّباً ما يأتي، من دون أن يأبه لما مضى. إنه كائن يخلّد الثبات، يتطلع لموعده الأخير، ناسياً فعل الزمن المخرِّب، حطام مَن ينتظر وما يُنتظر.
حينما تَهيّأ لي أن قصتي الطويلة مع المنفى طوت فصلها الختامي، انفتحت أمامي فصول أخرى تفاصيلها معوّمة، ومحمولاتها متناسخة. أين القرار وقد انكسر التعارض بين الوطن والمنفى، ونضبت الشحنة الرمزية للمكان؟ في الزمن المتناهي للذات، صرت أرى المُستقرّ الوحيد.

(مقالة منشورة في مجلّة «زوايا»، ربيع ٢٠٠٤)