محمد خير
بعد انطلاقة باهتة، حوّلتها نسخةً معرّبةً عن BBC، قرّرت «الجزيرة الوثائقية» أن تخطو أخيراً صوب الإنتاج. فهل تنجح المحطّة القطرية أمام أنظمة عربية تعطّل الحاضر وتحجب الماضي، وسياسات تسويقية تشوّش صورة البرامج التسجيلية في ذهنية المشاهد؟

في الوقت الذي احتفلت فيه قناة «الجزيرة الوثائقية» ببلوغ عامها الأول (انطلقت في 1 ك2/ يناير 2007)، لا يبدو للمراقب أن ثمّة سؤالاً أكثر إلحاحاً من الآتي: هل منحت المحطة زخماً جديداً للفن الوثائقي العربي؟ سؤال يقابله بالضرورة سؤال آخر هو: هل تغيّرت ثقافة تلقّي المشاهد العربي للتوثيق التلفزيوني، بعد انطلاق أكبر قناة عربية متخصصة في ذلك المجال، علماً أنها ليست الأولى، إذ سبقتها «المجد الوثائقية» في عام 2005؟ لا داعي للتفكير طويلاً قبل الإقرار بأنّ «الجزيرة الوثائقية» التي حملت شعاري «عندما تتحدث الصورة» و«وراء كل صورة حكاية»، لم تحدث الأثر الذي كان متوقعاً منها ـــــ حتى الآن على الأقل ـــــ لا على صعيد التأثير المهني ولا من جهة نسب المشاهدة. وبدا أن الطموح الذي أعلنه القائمون عليها في البداية، بدأ يتقلّص عملياً، سواء على صعيد الإنتاج المستهدف أو الشراكة مع شركات محلية عربية. إذ اعتمدت القناة في معظم مادتها على ما اشترته من أرشيف محطة «بي بي سي» الإنكليزية، وصارت «الدبلجة» هي السمة الأساسية للأعمال المعروضة على شاشتها، وهو ما منح الجزيرة الوثائقية سمةً أجنبية، ومن المعروف أن محبّي الفن الأجنبي، يفضّلون شريط الترجمة بدلاً من الدوبلاج!
إلا أن قضية العمل الوثائقي العربي أعمق من مسألة استيراد الأفلام وتعريبها، إذ تتعدى ذلك إلى مفهوم العمل الوثائقي نفسه، والفارق بين الوثائقي والتسجيلي. وهو فارق فشل إنتاجنا التلفزيوني العربي في توضيحه وترسيخه في ذهنية المشاهد، بل أحياناً حتى في ذهن بعض المشاركين في تلك الأعمال وصنّاعها أيضاً! فذلك مخرج عربي يقول إن العمل التسجيلي يصبح وثائقياً بعد فترة من الزمن، وآخر يرى أن الوثائقي أهم من التسجيلي لأن الأخير يفتقر إلى رؤية الأول. تلك الخلافات، في ارتباكها، تربك المهتمين وهم قلّة. وتبعد العمل، وثائقياً كان أو تسجيلياً، عن ذهن المشاهد أكثر فأكثر، من دون أن يخبره أحد بالخط الفاصل بين النوعين: فالتسجيلي هو الذي لا يعتمد سوى على اللقطات الحقيقية لشخصيات تعيش زمنها. أما الوثائقي، فيقبل لقطات إعادة التمثيل وتجسيد الوقائع، ويميل إلى الاستقصاء والاستنتاج، ويعدّ في الإجمال عملاً أكثر تعقيداً من ذاك التسجيلي. ومع ذلك، فإن التسجيلي ـــــ إذا كانت لقطاته أصلية نادرة ـــــ يبقى أكبر قيمة من ألف وثائقي. علماً أن معظم الأفلام الوثائقية الحديثة تعتمد على مزج التسجيل بالتوثيق، خصوصاً إذا كانت تتابع مساراً تاريخياً لقضية سياسية أو
علمية.
وربما كان أهم ما اكتشفته «الجزيرة الوثائقية» بالطريقة الصعبة، أن الإشكال الذي يواجه عملها هو الطبيعة البوليسية لأغلب أنظمة الحكم في العالم العربي. هي أنظمة تعطل الحاضر وتحجب الماضي، وما أصعب استخراج تصاريح للتصوير في الشوارع العربية من أجل برامج غير سياحية، وما أصعب الحصول على وثائق يختفي معظمها في أقبية الأجهزة الأمنية. أما عن غياب قوانين تتعلق بشفافية المعلومات، فحدّث ولا حرج. أضف إلى كل ما سبق أن الوصول إلى معارض الأنظمة، غير متاح في 90 في المئة من أنحاء العالم العربي. فهم إما في السجون أو القبور، أو في المنافي يلملمون أحزانهم ويراعون قوانين الهجرة. ولو نجح البرنامج الوثائقي في تجاوز كل تلك العقبات، فليس هناك ما يمنع ملاحقة صنّاعه قانونياً، مثلما حدث ويحدث للصحافية هويدا طه وبرنامجها «وراء الشمس» الذي فتح ملف التعذيب في مصر.
إلا أن عوامل أخرى تقف وراء تعطيل العمل الوثائقي العربي، والحيلولة دون لحاقه بركب التوثيق في العالم الغربي، هو عامل ذاتي هذه المرة، خاص بطرق وعلاقات الإنتاج التي تقف وراء البرامج الوثائقية. إذ أدى اهتمام المحطات الفضائية العربية ـــــ على رأسها «الجزيرة» و«العربية» ـــــ بالأعمال الوثائقية إلى إنعاش نشاط إعلامي/اقتصادي جديد. هكذا، نشأت العديد من شركات الإنتاج الإعلامي الصغيرة والمتخصصة في «توريد» ذلك النوع من البرامج، وهي تعتمد في ميزانياتها واستمراريّتها على قدرتها في تسويق أعمالها لدى الفضائيات الكبرى. وهو تسويق تحوّل في ما بعد من أسلوب العرض والطلب إلى أسلوب الطلب فقط، فتقوم شركة الإنتاج بإرسال قوائم الموضوعات إلى الفضائية لتختار منها ما يناسبها، ثم تعمل الشركة على إنتاجه. وفي الوقت الذي تهتم فيه الفضائية بمعايير العمل ومستواه الذي يجب أن يلبّي الحد الأدنى من مستوى الصورة والإعداد، فإنها لا تعرف شيئاً تقريباً عن كمّ الاستغلال القائم وراء إنتاج المادة.
إذ تعمد معظم الشركات الوسيطة إلى احتجاز أكبر قدر من الربح لمصلتحها، ولا يصل إلى المعدّين والمصورين والمخرجين إلا أقل القليل، أحياناً لا تصل ميزانية فريق العمل إلى ما يزيد على سعر ثلاث دقائق من زمن البرنامج! والنتيجة ابتعاد الكثير من العناصر المميزة عن العمل الوثائقي باتجاه برامج المنوعات والـ«توك شو»،
واستئثار بعضهم الآخر بعدد كبير من الأعمال، بغية تحقيق عائد مقبول في إجماله، وهو ما يؤثر بالضرورة في مستوى المنتج النهائي. فهل تهتم الفضائيات الكبيرة، على الأقل «الجزيرة الوثائقية»، بما يمكن أن نسمّيه «خطوط إنتاج» البرامج الوثائقية في العالم العربي؟ هل يمكنها أن تشترط حداً أدنى من العدل إزاء العاملين المحليين في تلك البرامج، كما تفعل الشركات الكبيرة والفنادق العالمية... إذ تشترط معايير محددة لوكلائها المحليين من أجل منحهم حق الوكالة أو التوريد؟ هي نقطة تستحق النظر، وإلى أن يحين ذلك، ما زال المشاهد بانتظار تفسير لغز تفوق البرامج الوثائقية التي تعرضها الجزيرة الرئيسية (« تحت المجهر»، «أرشيفهم وتاريخنا»، «الجريمة السياسية»)، على تلك المعروضة على «الجزيرة الوثائقية» التي أطفأت شمعتها الأولى؟