رفيق سنّو
«الذاكرة محايدة، واللبنانيون يحشونها بما يليق بالصراع. الذاكرة محايدة، والعرب، في الراهن من الزمن، في القرن الواحد والعشرين، يحشون الذاكرة بالثأر. أخبرني صديق أنّه لدى قراءة «تراث الأئمة» خرج من الكتاب وبه رغبة في الانتقام من أبي بكر الصديق. يا إلهي أين نحن؟ إلى أي جحيم نحن ذاهبون، فيما نظن أننا نقرع أبواب السماء؟».
في كتابه «القاتل إن حكى ـــــ سيرة الاغتيالات الجماعية» (دار الريس)، يحصي الكاتب والمحلل السياسي نصري الصايغ افتراضياً وحسابياً ما لا يقلّ عن أربعين ألف قاتل وثمانين ألف خاطف في الحرب اللبنانية: ثلاثة أشخاص منهم فقط اعترفوا بجرائمهم ودوّنوها. فيما أثبت هو الكثير منها، داقّاً ناقوس الخطر لأنّنا نعيش في مجتمع لا يزال فيه عشرات آلاف القتلة والمجرمين طلقاء. بل إنّ منهم مَن يتبوأ مناصب سياسية واجتماعية وتربوية، معتذراً باسم جميع القتلة من القتلى وذويهم وأولادهم.
لكن لماذا نبش صور الحرب الآن؟ يجيب الصايغ في المقدمة بأنّ الكتاب هو جزء من حملة «كي لا تتكرّر الحرب»، ويوضح في سياق آخر: «إن إعادة تصنيع الماضي مهمة غير تاريخية. إنّها مهمة ثقافية وسياسية، يتصدى لها مفكّرون وكُتّاب وشعراء وقادة. إن تصنيع الماضي لتقديمه بوعي نقدي، لا بعقل نسخي، هو مهمة مَن يهجسون بمستقبل مختلف».
على رغم أنّ المؤلف يعترف بأنّ «أسلوب التعاطي مع كل الشهادات لم يكن منهجياً «لأني فضّلت إراحة القارئ، فلا أثقل عليه بمشاهد القتل والذبح والسفك»، تطالعنا بين السطور مشاهد مروّعة وتفاصيل «موثّقة»: «أنا الضحية والجلاّد أنا» لمَن نُفّذ السبت الأسود، وشهادة رجينا صنيفر في كتابها «J’ai Déposé les armes » وشهادة المسؤول في «القوات اللبنانية» أسعد الشفتري، وصولاً إلى شهادات مَن بقي من ذوي الضحايا في صبرا وشاتيلا.. وشهادات موثّقة في كتابَي روبرت فيسك «لعنة وطن» و«لبنان بلد شهيد».
وقد وردت أيضاً بعض الحوارات التي أجرتها منى سكرية مع مقاتلين من مختلف الأحزاب. وكان بمقدور المؤلف «اكتشاف» قتلة آخرين، إلا أنّه أحجم عن ذلك لسبب أو أسباب في نفسه.
وعلى الرغم من مأساوية المشاهد والشهادات والوقائع المثبتة في الكتاب، لا يخفى النَّفَس الأدبي في أكثر من مكان. في باب «لغة السفك»، يورد لطيفة لغوية، وإن كانت تعبّر عن وحشية الإنسان، يقول: «تصوّر يا عزيزي، أنّ الحرب هي حبّ، أي حاء الحميمية، وباء القبلة، يفصل بينهما حرف يشبه السيف، الراء تُكتب ر. وصوتها هو اصطدام لسانٍ بسقف الحلق مصعّداً خرخرة من ضوضاء: رْ رْ رْ... رْ. ويلاحَظ أن صوت الراء، يتكرّر مراراً ويتردّد في War و Guerre». ويتابع: «السيف يفصل بين حاء الحب وبائه. مَن اخترع هذه اللغة؟ طبعاً ليس آدم... المؤكد أنّ تجار الحروب وتجار الحب ومساحيقه، يتعاونون في ما بينهم لجعل الحياة جحيماً».
السؤال المحيّر الذي يواجه قارئ نصري الصايغ هو حماسته الكبيرة لمقاومة الظلم، وإن اقتضى الأمر السلاح، على رغم كرهه للقتل والقتال، وإكباره للمقاومة اللبنانية واعتزازه بالإمام موسى الصدر وفكر محمد مهدي شمس الدين وشخصية حسن نصر الله (راجع كتبه «لو كنت يهودياً»، «حوار الحُفاة والعقارب»، «بولينغ في بغداد» خصوصاً «لست لبنانياً بعد»). لكن كيف تلتقي الإنسانية مع العلمانيّة مع المقاومة مع الجبّة والعمامة؟
الجواب نجده عند الصايغ في باب «حوار الحفاة والعقارب»: «أما بعد... فلا بد من خاتمة. عندما يلتقي فقه السماء بفقه الأرض، تستقيم الصلاة الوطنية. فهل حان وقت الصلاة؟ إذن حيّ على الصلاة... للوطن وشكراً».
هكذا، يحدونا الأمل بأن ينجح نصري الصايغ ورفاقه في حملة «كي لا تتكرّر الحرب» وانضمام كثيرين إليهم، علّ «وهم (؟) السلام اللبناني يتحقّق في اعتزال القتال الطائفي والسياسي والإعلامي».