خليل صويلح
مرة أخرى، يغافل سبهان آدم كائناته المشوّهة والممسوخة على أعتاب الجحيم. هذا التشكيلي السوري ما انفك يعمل على لوحة واحدة باقتراحات لا تحصى. وإذا بكائناته المذعورة تستسلم للعبة العبثية ذاتها. وجوه دميمة وأجساد من دون أطراف آدمية، تعيش أقصى حالات العزلة والفزع غارقة في السواد. وهي لفرط ذعرها ربما، تستعير مخالب لتنبت في الرأس، مثلما تتناسخ الأعين في الوجه الواحد. تنظر بدعة وغفلة، كما لو أنّها في قفص غير مرئي أو أنّها في مختبر للتشريح وقد خضعت إلى حقنة مخدرة.
في معرضه الجديد «أبعد من الليل» الذي يستضيفه حالياً المركز الثقافي الفرنسي في دمشق (حتى الواحد والثلاثين من كانون الثاني/ يناير)، يبدو سبهان آدم غير معني بما يحصل لكائناته من دمار روحي وجسدي. إذ يضعها على خلفية سوداء من خلائط الرمل والزفت، ليزيد وحشتها وعدميتها في لطخات لونية ارتجالية ونزقة تضاعف حدة التوتر لهذه المخلوقات الهجينة المنتزعة من العدم. لا مرجعيات تشكيلية أو أسطورية صريحة وواضحة لأعمال هذا الفنان، كأنّه يرغب بأن يبدأ من الصفر أو من حكايات الجدات عن كائنات خرافية مجهولة المصدر والجغرافيا.
وُيهيّأ لمن يشاهد أعمال آدم الذي يشتغل بغزارة وعنف عضلي، أنّ غبطة سرّية أو لوثة ترافقه خلال عمله، وهو يصنع هذا الدمار العاصف، حين يسد المنافذ كلها أمام شخوصه المستكينة، فيزيدها اختناقاً. ويفسر هذا العالم الخانق بقوله: «أنا أشبه غرفة من دون نوافذ، وبما أن شخوصي تعيش في هذه الغرفة، فهي مخلوقات من دون أوكسجين».
يرغب آدم بأن يكون متفرّداً ومتمرداً في آن واحد على مرجعيات المحترف السوري. وهو يحقق مثل هذه القطيعة فعلاً. لذا، يبدو حذراً في الاقتراب من أي صلة في هذا المحترف، عبر هدم الموروث الجمالي الشرقي وإعادة ترتيبه على نحو آخر، قد يلتقي تشظيات ما بعد الحداثة في بعض أفكاره العبثية. وسنجد صلة رحم بأعمال فرانسيس بيكون في ما يسمّى جمالية القبح، لكنّه في معرضه هذا، يسعى إلى خلق فسحة صغيرة للون في جداريات ضخمة، حين يلجأ إلى نمنمة جزء بسيط من الكتلة بألوان زاهية وفطرية، قد تخفف من ثقل السواد الذي يجثم على مساحة اللوحة وسطوحها. كما يغامر بلطخات ضخمة من الذهبي والفضي على نحو خاص، ما يمنح اللوحة فسحة تعبيرية، تقلل من شأن التشخيصيّة العالية لهذه الأعمال.
العبثية التي تقود سبهان آدم إلى مناطق مربكة وعصيّة على التفسير، قد تحتاج إلى تفسيرات ارتجالية موازية لهذياناته اللونية التي هي مزيج من خلائط تركيبية، يخترعها بنفسه ويختبرها بعنف لوني وكابوسي. وإذا بهما يتناوبان مسار الخطوط العريضة التي تؤطر ملامح كائناته المفزوعة والخائفة إلى الأبد.
في سلسلة لوحاته المعنونة «الرجال الطيور»، تحلّق شخوصه الحيوانية في فضاء كتيم ومعتم، لكنّه لمزيد من الوحشية يربطها بخيوط تتدلّى من سقف اللوحة ويتركها معلّقة بين الأرض والسماء كما لو أنها مصابة بلعنة أبدية. وفي «قلادات»، يستلهم من الدائرة أسئلة الكون في طواف ميثيولوجي حول معنى الحياة في دورتها الأزلية من دون أن يتخلى عن فطريته في تفسير مكوّنات خطوطه وألوانه المتقشّفة التي تتوارى وتخفت أمام فزع نظرة الكائن في عمق اللوحة.
يعيش سبهان آدم عند حدود الصحراء السورية، وفي ذلك المنفى الاختياري يستدعي كائناته السحرية وسط عويل الصحراء ورمالها، ليلعب معها «الغمّيضة» بكل خشونته البدوية. وحالما تبدأ اللعبة يوقفها فجأة... فيترك كائناته في الحيرة، مثبّتة إلى جدار ذهني لا تتزحزح عنه. بدءاً بهذه الصورة الثابتة، يعمل هذا الفنان الذي يقف على حدة بين أقرانه وأبناء جيله، على إدارة ظهره لكلّ المواصفات التشكيلية، فيبتكر ألوانه وشخوصه التي لا تنتمي إلى سلالة أو إرث، مطمئناً إلى فطرته في استدعاء مخزون حكائي ملتبس يحاوره باللون، وفرشاة خشنة لا تعتني بالتفاصيل والمعاني في حمّى عضلية تقوم بنسخ اللوحة ذاتها بتغييرات طفيفة في اللون.
لا شك في أنّ سبهان آدم ، يمثّل ظاهرة في المحترف السوري. وبقدر ما نبذه هذا المحترف بذريعة خروجه على المواصفات، فإنّه يحقق اليوم حضوراً عالمياً واسعاً. إذ تجول معارضه في مختلف أنحاء العالم، وتخاطب ذائقة معولمة تجد في مسوخه صورة مثلى للقمع الذي يعانيه الإنسان المعاصر.


معرض سبهان آدم، حتى 31 ك2/ يناير الجاري
«المركز الثقافي الفرنسي» ـــــ دمشق:
+ 96311 231 61 81

www.ccf-damas.org

www.sabhanadam.com




• «الشعر والتاريخ» هو عنوان المؤتمر الذي ينظّمه مركز الدراسات العربية والشرق أوسطية في الجامعة الأميركية في بيروت ويبدأ السادسة من مساء اليوم في قاعة «كولدج هول». يشمل المؤتمر خمس جلسات تستمرّ حتى 24 كانون الثاني (يناير) وتلقي الضوء على أهمية الشعر العربي كمصدر من مصادر التاريخ الاجتماعي والسياسي والفكري.
ويشارك في المؤتمر اختصاصيون من جامعات عربية وأوروبية وأميركية كجامعة أوكسفورد وهارفرد، وأساتذة من الجامعة الأميركية في بيروت وهم: خليل بيطار، طريف خالدي، رمزي بعلبكي، بيتر هيث، غرت جان فن غلدر، صالح آغا، سليمان مراد، فواز طوقان، فرنر دييم، طاهرة قطب الدين، وليام غرانارا، توماس بوير، لزلي ترامونتيني، نهى رضوان، أسعد خير الله، ماهر جرّار، أنجليكا نيوورث، بياتريس غروندلر ــــ للاستعلام: 01،353228